تظهر المخاطر بقدر إيماننا بوجودها

 أخرج من جيبك أيَّ ورقة نقدية.. 

تأملها بعمق وكأنك تراها لأول مرة ثم اسأل نفسك: 

ما الذي يجعل لها القدرة على شراء سلع مادية ثمينة؟! 


ما الذي يجعل الناس والتجار ومن يبيعون الذهب والألماس يقبلونها منك بطيب خاطر؟! 

... الجواب يكمن في كلمتين (الثقة، والتوافق).. 

ثقة الناس في الدولة التي أصدرتها، واتفاقهم على أن لها قيمة اقتصادية حقيقية.. 


بدون هذين العاملين لن يعطيك أحد شيئاً مقابل ورقة صغيرة من القطن والكتان.. لن يقبل أخذها منك ما لم يثق بالدولة التي أصدرتها ويرى من حوله يتعاملون بها.. 


خذ الدولار كمثال؛ فجميع البسطاء خارج أمريكا يثقون بالدولار ويحولون مدخراتهم إليه.. والسبب هو ثقتهم بقوة الاقتصاد الأمريكي من جهة، واتفاقهم على أنها العملة الرئيسية في العالم من جهة أخرى..


ولكن تخيل أن أمريكا أنكرت فجأة علاقتها بالدولارات الموجودة خارج حدودها. حينها ستفقد شعوب العالم ثقتها بالدولار، ويتحول بين أيديهم فجأة إلى مجرد أوراق خضراء لا تساوي شيئاً..


وهذا في الحقيقة ما حصل للمارك الألماني بعد انهيار الدولة النازية بعد الحرب العالمية الثانية (لدرجة أصبح يستعمل كورق جدران ويُحرق لأغراض التدفئة) وما حصل أيضا للدينار العراقي بعد هزيمة صدام حسين (لدرجة اشترى والدي ستة ملايين دينار عراقي بثلاثة آلاف ريال فقط)!! 


.. والآن لننسَ الاقتصاد قليلاً ونحتفظ بالفكرة ذاتها.. 

الفكرة هنا أن ثقة الناس في "الشيء" هي ما تمنحه قيمة، وأن اتفاقهم على أهميته هو ما يمنحه وجوداً.. فثقتنا في الورقة النقدية هي ما تمنحها (قيمة) واتفاقنا على أهميتها هو ما يمنحها (وجوداً)! وهذه الظاهرة لا تتعلق بعالم الاقتصاد فقط بل بالسياسة والاجتماع وكل جانب يمكنك تصوره.. 


ففي عالم السياسة مثلاً حين يثق الناس ويتفقون على زعيم معين ترتفع مكانة وقوة ذلك الزعيم.. وحين يتفقون على قوة وأهمية دولة معينة يمنحها ذلك شأناً وعالمية وسطوة حقيقية عليهم..


أما من الناحية الاجتماعية؛ فحين يثق المجتمع بوجود خرافة معينة ويتفق على وجودها بين أفراده تتبلور هذه الخرافة كحقيقة لها نتائج مادية ملموسة. وهذا في الحقيقة سر انتشار خرافات وخوارق معينة في مجتمع ما دون مجتمع آخر، مثل ارتفاع نسبة الملموسين والمسحورين لدينا مقابل انعدامهم في روسيا أو اليابان مثلاً!! 


.. وطالما وصلنا إلى حيث توجد أكبر نسبة من المسحورين والملموسين في العالم؛ سأخصص بقية المقال لضرب أمثلة إضافية من مجتمعنا المحلي (بخصوص بلورة مخاطر حقيقية لم تكن لتظهر لولا قناعتنا واتفاقنا على وجودها): 


فطالما اتفقنا مثلاً على خطورة قيادة المرأة للسيارة، ستتعرض المرأة بالفعل لمخاطر حقيقية إن قادت السيارة في شوارعنا (في حين لا يحدث ذلك في دول مجاورة لا ترى بأساً في ذلك)..


وطالما اتفقنا على خطورة عمل المرأة في مكان عام أو مختلط ستتعرض المرأة لمخاطر وتحرشات ومضايقات حقيقية رغم أن ملايين النساء حول العالم يفعلن ذلك دون مشاكل ودون أن يصلن لعُشر حشمة المرأة السعودية..


وطالما اعتقدنا أن احتفالنا بأي عيد أو مناسبة يهدد نسيجنا الاجتماعي أو الوطني، ستظهر سلبيات وتجاوزات حقيقية لا نراها في دول ومجتمعات تملك أعياداً ومناسبات بعدد أيام السنة!!


.. فالمعادلة التي نغفل عنها هي أنه كلما زادت قناعتنا بوجود الخطر وتسليمنا بوجوده كلما ساهمنا (بدون أن نشعر) في خلقه وتضخيمه ولفت النظر إليه، وبالتالي التحريض على منعه ومحاربته ممن صدقوا بوجوده فعلاً.. 

والدليل أنه في الحالات القليلة المعاكسة التي كسرنا فيها حاجز الخوف (وخذ كمثال الإنترنت وجوال الكمرتين وعمل المرأة) اكتشفنا فجأة أننا كنا مبالغين في مخاوفنا أو أننا كنا نستشهد بالنادر والشاذ لتعميمها كظاهرة.. 

باختصار: 


بمجرد إلغاء مخاوفنا (وسحب اعترافنا) بالسلبيات المحتملة لأي ظاهرة، تختفي بطبيعتها وتصبح فجأة بلا قيمة حقيقية.. بل وتسقط من عليائها بسرعة سقوط الدولار في حال سحبت أمريكا اعترافها به..!!

نقلاً عن جريدة "الرياض"