الوجه الآخر لشـباب أمريـكا.. المزارعون الصغار

(جريج وجراي) زوجان أمريكيان في سن الشباب، انخرطا في تجربة تشغيل الشباب في الحقول فأصبحا على رأس مؤسسة كبيرة. التجربة تحمل كثيرا من حماس الشباب وتحديه للمصاعب، وتصلح لأن نقدمها إلى بعض شبابنا الذين يقيمون الليل أمام الدش وينامون النهار، فالحكمة ضالة المؤمن، والغرب لم يتقدم إلا بجريج وأمثاله، أما الشباب المتسكع الخنع الذي يقدمه إلينا في مسلسلاته وأفلامه فهو مجرد خدعة. من بعيد، يبدو (جريج جيل) وكأنه خيال مآتة. فعندما يقف بين مزارع الخيار والفاصوليا في حقله الممتد على مساحة 84 دونما يبدو جسده الفارع النحيل تحت قبعة مصنوعة من القش يظهر تحتها شعره الأسود المتنافر. ولكن عن قرب، تنطق نظرته المحدقة الثابتة بأنه ليس برجل من قش. وعندما يعود إلى المكتب، تنهض زوجته وشريكته في إدارة (مشروع الغذاء) جراي من وراء جهاز الكمبيوتر الخاص بها. وهي تبدو بطريقة حديثها السريعة وبحيويتها الفياضة وكأنها رئيسة مدرسة للفنون العقلية. هاهي تندس في سيارة مرسيدس مستهلكة، وفي غضون دقائق كان (جيل وجراي) في إحدى بقاع زراعة الفاصوليا. ويقف الاثنان على أرض مألوفة بالنسبة لهما. فطوال الأعوام السبعة الماضية، التقى هذان الزوجان المختلفان في طباعهما داخل الحدائق والمكاتب والمنازل لكي يشكلا مجموعة من المزارعين الشباب أصبحت نموذجا قوميا اليوم. ومن خلال عملية إنتاج 180 ألف رطل من المحاصيل العضوية، تمكنا من تغيير حياة 200 من شباب المدينة والضواحي، فضلا عن إطعام آلاف الأشخاص المحتاجين. يقول أوران هسترمان في مؤسسة WK.Kellogg بمدينة باتل كريك بولاية ميتشجان: لقد أسس (جيل وجراي) نظاما ناجحا يخاطب تنمية الشباب وأنظمة الغذاء القابلة للدعم ومنذ شهرين، منحت المؤسسة المشروع منحة ثقة ضخمة تقدر بـ 615000 دولار. وسيتم دفع هذه المنحة على خمس سنوات للمساعدة في نشر النموذج الذي ابتدعاه في مناطق أخرى. وإذا كان (جيل وجراي) لم يكونا السبب في ميلاد هذه المنظمة فلقد قاما بتطويرها إلى أن نضجت. فمنذ 1992م، قاما بتبني مشروع مرشد واعد على الرغم من ضعف رأسماله، وأسسا هذه المنظمة التي تبلغ ميزانيتها السنوية حاليا 724000 دولار ويبلغ عدد العاملين فيها أحد عشر فردا. واليوم، تتضمن إنجازات المشروع مايلي: قطعة أرض مساحتها 84 دونما مستأجرة في ضاحية لينكولن (أي حوالي 84 ألف متر مربع)، و8 آلاف متر مربع في روكسبري، وهيئة أمناء تضم بعض الشباب، وسوق المزارعين داخل المدينة، وبرنامج سنوي أكاديمي للشباب المختارين من خلال البرنامج الصيفي. جاء (جيل وجراي) إلى (مشروع الغذاء) وليس لأي منهما خبرة سابقة في إدارة هذا النوع من المجموعات الاجتماعية. ويقول (جيل وجراي) إن المفتاح المحرك لنجاح المشروع حتى الآن هو أسلوب الإدارة المفتوح الشامل. وعلى نقيض الإدارة المتدرجة من أعلى إلى أسفل السلم الوظيفي التي تتبناها بعض المنظمات الاجتماعية، فإن القيم الإرشادية والقرارات والتوجهات التي يقرها المشروع تأتي كنتاج المناقشات المنتظمة مع بقية أفراد مجموعة العمل. وتقول (جراي): إذا كنا نمثل نموذجا ما، فنحن نموذج التضامن وتبني المعايير الجادة، فنحن نوظف الأشخاص الذين يلتزمون بالعمل مثلما نلتزم نحن به، ونحن ننتظر منهم إسهاماتهم. فهذه ليست سفينة للمسافرين. إذ نقوم كلنا بالتجديف لذا فإننا نحدد معا أين ستتجه السفينة. وتتم المناقشات كل يوم جمعة، ويستمر الاجتماع مدة ثلاث ساعات. وفي شهور الصيف، تكون الاجتماعات أقل انتظاما. ولكن في الخريف يغلق المكتب أبوابه لعدة أيام من أجل دورة تخطيط بعيدا عن موقع التنفيذ. لقد ضم المشروع مؤخرا متبرعين وآباء ومراهقين وأعضاء اجتمعوا كلهم من خلال اجتماعات طويلة تقوم بتحديد الأهداف والقيم حتى عام 2003م. وكانت نتيجة هذا التضامن الوصول إلى مستوى من الالتزام تحلم به الكثير من المؤسسات الكبرى دون أن تصل إليه. وتحتوي ملفات المشروع على عشرات الشهادات التي كتبها المراهقون والآباء عن مدى تغير حياتهم بعد الانضمام للمشروع. لقد كان مشروع الغذاء إحدى أفكار (وارد تشيني) وهو مزارع خبير من لينكولن، أراد أن يجمع شباب كل البلدان معا في مؤسسة زراعة خضراوات لإيجاد منتجين وزعماء عميقي التفكير لامجرد مستهلكين للخيرات. ولقد قام بتوفير مكان المكتب والأرض شركة ماساشوسيت أوديبون. وكان لرؤية (تشيني) جاذبية خاصة جذبت تمويلا قدره 140 ألف دولار في العام الأول قدمتها المؤسسات المحلية والمتبرعون، كما اختار أفضل المستشارين المتخصصين في تحميس الشباب. ومنذ البداية أدرك قيمة المناقشات الداخلية الرسمية. وعندما تم تعيين (جراي) عام 1991م- وكانت آنذاك أما لطفلين- عملت جنبا إلى جنب مع تشيني في المشروع، وقالت لزوجها حينئذ: سأبقى معهم لمدة ثلاث سنوات مهما حدث لأن هذا المشروع مدهش حقا. وهي تضيف قائلة اليوم: لم يبرحني هذا الإحساس حتى الآن. أما (جيل) فهو خريج مدرسة هارفارد ديفتني، وكان يعمل مدرسا عام 1992م عندما انضم إلى المشروع كمتدرب أثناء فصل الصيف. وبعد فترة، أصبح عضوا في الإدارة، ولقد تعلم طوال صيفين علي يد الخبير ستانلي بولاك الذي يرأس برنامج تقوية النشء. ويقول (جيل): مع ستانلي تعلمنا كيفية إيجاد إحساس بالهدف لدى الشباب، وكيفية حماية هذا الهدف من خلال عقد مكتوب تتبعه عملية مراجعة حتى يتعلم الصغار قوة الشخصية. بالنسبة لـ(جراي)، كانت فكرة المناقشة الداخلية بمنزلة كشف عظيم. فهي تقول: لقد جئت إلى مشروع الغذاء وأنا أتسم بشيء من الديكتاتورية والتسلط، ولكن بعد أن أصبحت جزءا من العمل هنا أصبحت ملتزمة به تمام الالتزام لأنني رأيت أن كل هذه المناقشات تؤدي إلى تحسين الصورة الأخيرة لجميع القرارات. وتقول جراي: في الأعوام المبكرة، كان التمويل غير مؤمن، في بعض الأحيان كان العاملون لايتقاضون رواتبهم لمدة ستة أشهر. ولحسن الحظ، كان من بين أعضاء فريقنا من كانوا يستطيعون الاستمرار في العمل دون الحاجة إلى إطعام ذويهم مما قد يدره عليهم المشروع من مال. ولقد آلت رئاسة المشروع إلى (جيل وجراي) معا في العام الثالث من قيامه. وكان برنامج حجر الزاوية الصيفي يمضي قدما بما يضمه من 24 من شباب المدينة والضواحي الذين تم توظيفهم لزرع وحرث وحصد المحاصيل بمكافأة أسبوعية قدرها 125 دولارا للشاب الواحد. وبينما راحت (جراي) تضطلع بكثير من واجبات الإدارة الجديدة، أصبحت بارعة في جمع الموارد المالية. واعتمدت لذلك على نصائح المستشارين وعلى الكتب التي تشرح كيفية النجاح في مثل هذه الأمور. وتقول جراي: كانت نتيجة استمرارنا لعدة شهور بدون أموالنا أننا جمعنا مايقدر بنحو 120? من ميزانيتنا على مر الأعوام الثلاثة الأخيرة. وتندمج قدرة (جراي) على الاقتصاد وإصرارها القوي اندماجا طيبا مع قدرة (جيل) على الإشادة بالشباب ودفعهم إلى الأمام والحرص على أن تتسم البرامج الميدانية بالتجديد والتحدي والمتعة. وتقول (مارثا بويد) المزارعة التابعة للمشروع في حديقة روكسبر: يتميز (جيل وجراي) بأنهما مفعمان بالطاقة الدافقة إلى الأمام وهما يتمتعان بأعلى درجة من الثقة لتمسكهما معا بروح الفريق. وفي إحدى المرات قال أحد الشباب لجيل: ينبغي أن يكون كل فتى في أمريكا داخل هذا البرنامج. ولكن عليكم ألا تخاطروا بطبيعة المنظمة الأساسية.