السياحة ودلالة المفهوم

حينما نتكلم عن السياحة يتبادر للذهن التنزه والترفيه والترويح وربما استصحب المدلول أماكن اللهو المحرم، ومن أجل هذه الجزئية يتنكر البعض للسياحة، حتى بلغ الأمر إلى تبرئة الرحلات العبادية من هذه اللفظة، وإن كانت هذه الكلمة ظهرت في كتاب الله ببعض تصريفاتها اللغوية (السائحون) (سائحات) (فسيحوا). وهذا يذكرني بكلمة الدعاية فلو أخبر أحدهم أنه ذاهب لبلد ما للدعاية للإسلام؛ لرد عليه آخر: بل للدعوة للإسلام مع أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم كلمة دعاية في خطاباته للملوك بقوله: أدعوك بدعاية الإسلام. وذلك لأن الدعاية نحت منحا آخر فربطت بالدعاية السياسية؛ كدعاية النازية والتوجهات الفكرية الملحدة التي استخدمت الكذب وتزييف الحقائق، وبالتالي يستبعد الكثير منا هذه اللفظة وينزه الدعوة عنها، فهل نمتنع من استعمال لفظة أساء البعض استخدامها كالدعاية والسياحة احتراسا واحترازا من دخول فاسد يفسد مجمل اللفظة التي تدل في أصلها على معان خيرة؟. هذا السؤال نتحاشى الإجابة عنه للاعتبار السابق، ولكن العالم الذي نحن جزء منه لن يقبل أو يسلم لنا بذلك فنصبح كالصوت الشاذ أو كالذي يغرد خارج السرب. لقد أصبحت السياحة اليوم علما يدرس في الجامعات، ومصدر رزق يتكسب من خلاله فئات كبيرة من المجتمعات؛ فإسبانيا- على سبيل المثال- تحتل السياحة الجزء الكبير من دخلها حيث تعتمد على زيارة الأماكن الأثرية العربية الإسلامية لديها من قبل عدة ملايين سنويا يستمتعون برؤية هذه الأماكن فتجني ثمار ذلك المليارات. فإذا أصبحت السياحة علما ومصدر رزق فلماذا لانهتم بها كما يجب؟ بل نسعى إلى أن نتفوق فيها فنبقي منها المباح، ونستبعد المحرم، ولايتأتى ذلك إلا بأن يكون لدينا ثقة بأنفسنا بأننا ولله الحمد قادة المجتمعات بما لدينا من دين تكفل الله بحفظه، كما أن لدينا رجالا يحملونه لانشك في صلاحهم وتقواهم وكذلك أبناء ربوا على هذا الدين نطمئن إليهم. وإذا عدنا إلى مفهوم السياحة الذي نحن بصدده نجد أنها تعني الذهاب في الأرض للعبادة ومنه المسيح ابن مريم. والله عز وجل جعل من صفات المؤمنين السائحين، يقول تعالى : التائبون العابدون السائحون... التوبة: 112، وقد فسرت هذه اللفظة بتفسيرات عديدة منها: الصائمون والغزاة في سبيل الله وطلاب العلم الذين ينتقلون لطلبه، وقيل: المتفكرون في خلق الله وسننه. وفي مجمل المدلولات يظهر جليا أن السياحة يقصد بها الخروج عن المألوف. فالصائم يترك الطعام والشراب مما ألفه إلى حالة أخرى وهي الامتناع عنهما، والغازي في سبيل الله يخرج عن المألوف في خروجه من حب الحياة وزخرفها إلى حب الاستشهاد، وطالب العلم يخرج من بلاده التي ألف علماءها إلى بلاد أخرى ليتعرف على علماء جدد يستفيد منهم، والمتفكر في خلق الله يخرج عما ألف الناس من التفكير السطحي إلى العميق في ملكوت الله والسائح- أيا كان نوعه- يخرج مما ألفه إلى مالم يألف في سكنه وطعامه وشرابه وعلاقاته حتى في الأرض التي تربى عليها. وشعائرنا تربي فينا الخروج عن المألوف فالصلوات الخمس ليست من جنس أعمالنا الدنيوية لأنها تخرجنا من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، وصيام شهر رمضان خروج عن مألوف وهو التنعم بالمأكولات والمشروبات وغيرهما إلى الامتناع عنها، والحج وهو سفر لعبادة والأصل السفر لأغراض دنيوية، والزكاة أيضا خروج عما جبلت عليه النفس من الشح ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون الحشر: 9 إلى البذل والعطاء مع أن المال صنو الروح. مما سبق يتضح أن السياحة تدل على الخروج عن المألوف وبذلك فهي لاتخرج عن مقاصد الشريعة في النظر في ملكوت الله من خلق جديد لم يألفهم المسلم، في أشكالهم ولغاتهم، في عاداتهم وتقاليدهم، في تضاريس أرضهم حتى لون تربتهم. ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين الروم: 22. وهنا يجب التنويه إلى أن الخروج عن المباحات لارتكاب المعاصي والذنوب مما لاتقره الشريعة لاسفرا ولاحضرا، لذا يصبح السفر محرما إذا قصد به الإفساد في الأرض أيا كان قصد هذا السفر. ومن هذا كله يتضح أن السياحة في ذاتها أمر مباح إلا إذا ارتكب خلالها منكرات. ولقد خرج صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البلاد التي فتحت ليعلموا الناس أمور دينهم مع مافي تلك البلاد حديثة العهد بالإسلام من المنكرات. يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في السفر المرادف للسياحة في يومنا الحاضر: ترحل عن الأوطان في طلب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد تفريج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد فإن حددت في عهده رحمه الله فوائد السفر بخمس؛ فقد تنوعت السياحة في أيامنا وتفرعت أهدافها وأصبحت كما أسلفت علما ومشروعا اقتصاديا دوليا له منظماته الدولية التي تنظمه وتهتم به، وتسعى الدول إلى اكتساب أكبر عدد من السياح سنويا، بل وتشجع وتقضي على كل عائق يعيق العملية السياحية. كما تحقق السياحة للأفراد فوائد جمة يقول تعالى في رحلة الحج ليشهدوا منافع لهم... ويقول أيضا: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم... الآية البقرة: 198. فإن كان هذا في رحلة الحج ففي الرحلات الأخرى من باب أولى، والله أعلم. ?المشرف العام على مكتب الندوة العالمية للشباب الإسلامي بمنطقة المدينة المنورة