الوصفات الشعبيــة في الميزان

بالرغم من التقدم الهائل في مجالات الطب المختلفة، وتطور التقنيات المستخدمة فيها، إلا أن هذه المجالات شهدت تعقيدات أدت إلى زيادة تكاليف المعالجة، مما حدا بكثير من الناس إلى الاتجاه نحو العلاج الطبيعي البسيط والطب التقليدي أو ما يسمى بالطب البديل. حقيقة الأمر أن الطب البديل ممارس في كل انحاء العالم ومنذ أزمان ضاربة في البعد؛ ومعارفه ومجالاته مكتسبة بالخبرة والممارسة، وهو أرخص وفي أحيان كثيرة آمن وأحسن من العلاجات مثل مزيلات الألم والمسهلات وغيرها من الأدوية الصناعية التي يصاحب استخدامها أعراض جانبية تكون خطيرة في بعض الأحيان. يلجأ كثير من الناس إلى تناول الأعشاب لمعالجة بعض الأمراض، أو لتحقيق بعض الأهداف المرتبطة بالنشاط والحيوية وغيره. وبالطبع فإن لكثير من الأعشاب فوائد طبية وعلاجية لا تنكر، ويثبتها الواقع والتجربة كما ذكرنا أعلاه، لكن مما لا شك فيه هناك أيضا خرافات وأوهام وادعاءات كثيرة حول استخدام الأعشاب، بل أكثر مما في أي حقل آخر من حقول الاستخدام، كما أشار الدكتور فارس موسى في الملف المفتوح للعدد الماضي. وهذه أمثلتي.. مثال للاستخدام الفعال والناجح للأعشاب في علاج الأمراض وربما الخطيرة منها، نجده في السودان في علاجات مرض الصفراء (الإيرقان) طبيا، ولهذا المرض أسباب أو أشكال متعددة: التهابي مثل التهاب الكبد الوبائي، وانسدادي كما في حالات الأورام وقفل قنوات الصفراء بأي قافل، ونزفي أو تحللي كما في تحلل كريات الدم الحمراء بسبب الملاريا وغيرها من محللات الدم؛ ومن أعراض أنواعه كلها اصفرار الأغشية المخاطية، بل اصفرار الجلد، والاصفرار هو العرض الرئيس الذي بسببه، ومنه جاء اسم المرض. ويوجد في السودان أكثر من علاج غير طبي لهذا المرض: منها الكي في مواقع معينة من الرأس، ناصيته، أوسطه وآخره عند أول فقرة عنقية متصلة به؛ والكي في أعلى الساعد الجهة العليا في مستوى مفصل الكوع وأدناه عند الرسغ من الجهة العليا أيضا، ومع الكي شرب راشح الكسبرة، ومن علاجات هذا المرض محتويات كرش حيوان الكيكو، وهو حيوان جبلي آكل للأعشاب أصغر حجما من الغزال وأكبر من الأرنب: أذكر عندما كنا طلابا في المرحلة المتوسطة، أنه أصيب عدد من الزملاء بداء الصفراء، وأعتقد أنه كان غذائيا وبائيا لكثرة المصابين الذين توفي بعضهم بسببه، رحمهم الله. كان من المرضى ابن خالي وصديقي أطال الله عمره، وقد شفاه الله -سبحانه وتعالى- في الحال بعد أن تناول شوربة محتويات كرش ذلك الحيوان بعد غليها مع البصل. وكذا قريبتي.. وأذكر أنه قبل عشرين عاما أصيبت إحدى قريباتي بالصفراء، وكانت حاملا في شهرها الثاني. كان مرضها حادا ألزمها الفراش شهرين عازفة عن الأكل إلا اليسير منه، حتى أشرفت على الهلاك. وفي السودان يخاف الناس من مرض الصفراء المصاحب للحمل إذ ترتفع نسبة وفيات المصابات به كما يخافونه عندما يكون مصحوبا بالملاريا أو نتيجة لها في الجنسين. لم يترك زوج قريبتي المريضة وأهلها وجيرانها بابا للعلاج إلا وطرقوه، وبينما هم في إشفاقهم ورجائهم ودعائهم، جاءهم وجاءها الفرج من المولى القدير على يد عطار يعمل جزارا في سوق اللحم، كان دواؤها خليطا من الأعشاب والتوابل والعسل، تركيبة توارث أفراد إحدى العائلات فن تحضيرها وإعدادها، وكان بعضهم ممن سبق عليهم الرحمة، يقدمونها وغيرها من أدوية الأعشاب للمرضى، صدقة وإحسانا رجاء الجزاء من الكريم المنان، لقد شهدت علاج تلك المريضة في ذلك الزمان الماضي، حيث أمر المداوي -الشافي الله- أن تتناول الدواء جرعة كاملة في مرة واحدة -وهو بحجم نصف عبوة برطمان المربى العادي. تناولت المريضة العلاج بصعوبة بالغة لأن فمها كان ينكر كل طعم. ولأن الدواء كان حارقا، بالرغم من أنه ذو رائحة زكية - كما أفادت- حال تناول ذلك الدواء تقيأت المريضة قيئا كثيرا لم أر في حياتي مثله كمية أو محتوى، أصفر، أخضر، أسود، أحمر، كل ألوان الطيف، إفرازات شتى، تعجب كيف تحتويها بطن إنسان، والبطن بيت الداء. في اللحظة نفسها أعطيت المريضة شوربة حمام دافئة أمر المداوي بها كجزء من العلاج، رغم أنه قد جرت العادة في السودان أن يمنع الناس مريض الإيرقان من تناول اللحوم ومرقها والأملاح وغيرها من الأغذية اعتقادا بأنها تضره. أذكر أن المريضة وأمام دهشة الجميع استساغت الشوربة وأخذت منها كمية كبيرة، ومن تلك اللحظة عادت شهوتها للطعام لحالتها الطبيعية، وشفيت تماما، بل باشرت عملها فورا إذ إنها كانت تعمل مدرسة. يعالج هذا المرض الواسع الانتشار بمنتنج آخر اسمه الكول، وهو عبارة عن أوراق نبات بري، يتم هرسها وتحويلها إلى عجينة وتشكيلها في قطع مكعبة شبيهة بقطع الأقط والكعك، وأحجام مختلفة ثم يخمر تحت الأرض بطريقة معينة في بيئة لا هوائية ثم يجفف. يستخدم الكول عادة كمادة مشهية يضاف للمرق بعد سحنه في شكل بودرة ويؤكل مع العصيد أو الكسرة السودانية (القرصان) الرهيفة، ولهذا المنتج رائحة نفاذة كريهة لا تخرج من الأصابع، ولكن له طعم لذيذ جدا مع المرق، وهو هاضم وطارد للغازات، وعلاج ناجع للصفراء أثبتت التجربة ذلك، وقد حدثني قبل أيام. أحد الأصدقاء أن قريبا له مريضا تعالج به هنا في الرياض. العرديب والحرجل وشؤون أخرى ويتعالج السودانيون من الملاريا بشراب العرديب وهو ثمرة شبيهة في شكلها وطعمها بالتمر هندي وشرابها شبيه بشراب التمر هندي، وهو واسع الاستخدام هذه الأيام في السودان خصوصا أيام الصيف، وفي السودان يستخدم في العلاج على هيئة شراب ثمار شجرة التبلدي (يخزن الماء في ساقها المجوف الكبير في المناطق الجافة في السودان) التي تسمى القونقوليس وتستخدم لعلاج اضطرابات المعدة والدوسنتاريا والإسهال وأنا شخصيا كانت جدتي لوالدي عليها الرحمة تعالجني به من اضطرابات المعدة طوال أيام الصبا ومراحلي الدراسية حتى دخول الجامعة. ومن أمثلة علاج اضطرابات المعدة والنفاخ نبات الحرجل (يسمى الحرمل في السعودية)، وحقيقة الأمر فإن استخدامات الأعشاب في السودان تحتاج لمجلدات. ويعالج فقر الدم في السودان بمديدة ثمار القضيم (المديدة تصنع من العجين في شكل حساء غليظ القوام). حبة البركة.. أين الصح يؤدي وجود الخرافات والأوهام والادعاءات الكثيرة حول استخدام الأعشاب إلى صعوبة حصول المستهلك على معلومات دقيقة وموثقة عن فوائد الأعشاب المختلفة ودواعي استخدامها، وجرعاتها، ومواقيت تناولها. ويمكننا أن نمثل لذلك باستخدام حبة البركة وزيتها. لقد ثبت في السنة النبوية المطهرة فائدتها وأنها دواء لكل داء، كما ثبت من الأبحاث العلمية فوائدها الطبية والعلاجية، لكن لا يزال استخدامها عشوائيا وغير مرشد. حدثني زميل مصاب بمرض مزمن شفاه الله بأنه يأخذ زيت حبة البركة، لكنه يعاني عناء شديدا من اضطرابات معوية بعد تناوله. سألته عن مقدار ما يتناوله من هذا الزيت وكم مرة يتم ذلك؟ أفاد بأنه يتناول الزيت عدة مرات في اليوم في جرعات تصل إلى ملعقة طعام وأكثر. إنه بهذا المقدار يتعاطى سما لأن كل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده. وبالتأكيد فإن تناول جرعات كبيرة من حبة البركة وخصوصا زيتها مضر جدا بل سام. الجرعة العلاجية منها لا تتجاوز ملعقة صغيرة من الحب في اليوم، فما بالك بمن يتناول ملعقة من زيتها؟. إن ملعقة من الزيت سامة أو محسسة للجهاز الهضمي ومحدثة للضرر البليغ به وبأجهزة وأعضاء أخرى مثل الكبد المسؤول عن التخلص من السموم. ليست سحرا أو دجلا.. ورغم ذلك وفي المقابل، فإن انتشار استخدام الأعشاب ورواج تجارتها أدى إلى امتهان كثير من المدعين والدجالين لتلك التجارة وبيع كثير من التراكيب التي يدعون فعاليتها في علاج الكثير من الأمراض. وتجد مثل هؤلاء يعرضون بضاعتهم في الطرقات، مفترشين الأرض أو متجولين أمام المستشفيات والمجمعات السكنية والأسواق. ومن مبالغاتهم وترهاتهم أنهم يدعون المقدرة على التفريق بين المرء وزوجه وتأليف القلوب وجلب المحبة أو تسبيب البغض وتحقيق القبول لدى الحكام والحصول على الوظائف إلى آخره من الترهات. إنها المثلية إن المعالجة بالأعشاب تعرف بالمعالجة المثلية (Homeopathy) وتعمل كتفاعلات وردود فعل الكائن، تحفز التفاعلات وتزيد فعاليتها وتعمل معها، لذلك تكون بحاجة لجرعات صغيرة جدا، إذ إن الجرعات الكبيرة القوية قد تحفز تفاعلات المريض في الاتجاه السلبي، وهكذا المعالجة المثلية تفاعلية، وتعرف بأنها معالجة الداء بإعطاء المصاب جرعات صغيرة من دواء لو أعطي لشخص سليم لأحدث عنده أو فيه أعراضا مثل الأعراض التي يحدثها المرض المعالج. في المقابل تسمى المعالجة التقليدية بالمعالجة الألوباثية (Allopathy)، وتقوم على استخدام علاجات تحدث آثارا مختلفة عن تلك التي يحدثها المرض المعالج. إن العلاج بالأعشاب ليس مجرد فكرة هلامية خيالية، وليس فلسفة أو سحرا بل هو وسيلة لتعديل ومعالجة الأمراض، تعتمد على النظريات المتحصل عليها خلال سنوات عديدة من العمل في تجارب السمية والتجارب الإكلينكية والعلاجية. وعندما نتحدث عن المعالجة المثلية يجب أن نستحضر الحقيقة التالية: القاعدة الأساسية للمعالجة المثلية هي قانون المثلية الذي يشكل الفعل المتوازي بين درجة سمية مادة معينة ومفعولها العلاجي. ويفرض هذا القانون على أي شخص يريد استخدام المعالجة المثلية في علاج الناس أن يكون عالما بمفعول المواد المختلفة النشطة صيدلانيا في الأشخاص الأصحاء وصايا وتنبيهات.. - لا تقدم على استخدام الأعشاب دون مشورة ونصيحة أهل المعرفة والاختصاصيين. - استخدم الأعشاب بالجرعات المحددة لأن بعضها يحتوي على نسب من السموم. - الأعشاب إما أن تصيب أو تخيب، ويعتمد الأمر على كيفية زراعة العشب وتجفيفه ومدة تخزينه وطريقة تعبئته. - احذر الأعشاب القديمة وغير المغلفه تغليفا جيدا، لأنها قد تحتوي الغبار وبالتالي الأحياء الدقيقة الممرضة. - راجع بعض الكتب الخاصة بالأعشاب واقرأها، ولكن بحذر، لأن غالبية المطبوعات تدخل في باب ما يسمى بأدب الدفاع الفاقد للموضوعية والعلمية، وقد لا تحتوي معلومات موثقة بقدر ما تكون نوعا من الإعلان والدعاية للكسب.