حوار الأجيال.. طقوس الطعام خارج المنزل

(جيـــــل 1) إذا حضر الطعام - وكان قليلا ما يحضر- فقد كانت تجرى له طقوس إعدادية تختلط فيها الاحتفالية بالانتهازية، وتتمازج فيها الاستراتيجية بالتكتيك. كنا ونحن صغار نأكل في الهواء الطلق تحت الشمس، وبين أغصان وجذوع الشجر بكل شفافية ووضوح نملأ أجوافنا الجائعة بشيء من تمر وكثير من ماء... أو نأخذ الخبز اليابس ونغمسه بأي سائل يحيله إلى كتلة مأكولة. في الولائم المعدودة تظهر استراتيجيات من نوع املأ بطنك باللحم فالرز قد تجده في بيتك ويستخدم تكتيك جوع بطنك يومين قبل أن تلامس الرز واللحم وتدرس خارطة السفرة بعناية حيث تهاجم المواقع الاستراتيجية المواجهة لقطع اللحم المميزة، مع الأخذ بعين الاعتبار النواحي البروتكولية التي تقدم الوجهاء على البسطاء من أمثالنا. كان الناس في زمن الجوع المؤلم يأكلون في بيوتهم قليلا.. وكثيرا ما ملؤوا بطونهم في الحقول المشبعة بضوء الشمس. (جيـــــل 2) كان من العيوب القاتلة للشهامة والخارقة للمروءة أن يرى الرجل وهو يأكل في الشارع أو الهواء الطلق. بل ربما أن جيلنا كان مسكونا باحتقار كل من يرتكب جرم الأكل من المطاعم، فضلا عن الأكل فيها وتلك لعمر الله جريمة لا تغتفر عند أقوام قاطعوا قريبا لهم بعد أن ضبط متلبسا بأكل وجبة في مطعم لا يرتاده إلا الغرباء وقليلو المروءة. كان جيلنا يتحدث بأسف عن الشباب الذين شوهدوا مرات عديدة في شوارع المترفين وهم يتناولون ساندويشات الشاورما أمام الملأ ثم يعقبونها بشيء من العصيرات المصنوعة في خلاطات أتوماتيكية مدهشة. كان الأكل خارج البيت علامة دامغة على الخروج عن المألوف. (جيـــــل 3) إذا لم تتناول وجبة خارج بيتك خلال أسبوع، فأنت أحد اثنين: إما أنك ريفي غير مندمج مع قانون التحضر ومتجاوب مع سرعة التمدن، وإما أنك اقتصادي لدرجة أنك تحسب الفرق بين الوجبة خارج البيت وداخله. نحن جيل لا نتمتع بطعم القهوة إلا إذا شربناها على رصيف المقهى، ولا نعتبر الوجبة مكتملة إلا إذا كانت في الشارع... الأكل خارج البيت لم يعد مقتصرا على كـونه وجـبة، إنه طقـس يتجاوب مـع شعارات العولمة والغـزو الإعلامي وامتلاك ناصية الاستهلاك في وصفة متشابكة تشابكا مهيبا. نحـن كأجدادنا تمامـا نتناول فنجان القـهوة تحت الأغصـان وبين أوراق الشجر مع الفارق أن أشجارنا صناعية وجذوع الشجر مستوردة، تماما كما هي طقوس تناول وجباتنا اليوم!