الحليب.. وهل هناك أبيض منه؟

ما هي حقيقة اللغط الدائر حول استخدام حليب الأبقار في تغذية الإنسان؟ تعد وسائل الإعلام وخصوصا الصحف اليومية مرتعا للجدل واختلاف وجهات النظر فيما يتعلق بتغذية الإنسان. فلقد أثير في بداية التسعينيات من هذا القرن جدل حول الحليب، أثارته منظمة أطلقت على نفسها اسم: لجنة الأطباء المسؤولة عن الطب الموثوق، ادعت فيه أن حليب الأبقار يشكل خطرا على صحة الأطفال، لذا يجب توعية الآباء بذلك، وطلبت من الجهات الحكومية المسؤولة عن التشريعات الغذائية عدم وضعه في قائمة الأدلة الغذائية، وادعت اللجنة أن مضار حليب الأبقار على صحة الأطفال يشمل مناحي عديدة! ما إن طرحتها اللجنة حتى تلقفتها الصحف والمجلات بأقلامها وبثتها دون تريث أو تأمل. ولكن ماذا قالت اللجنة وما هي تلك المناحي؟ بداية وقبل أن نذكر تلك المناحي لابد من التأكيد بأن حليب الأم أو ما نسميه الرضاعة الطبيعية هو الغذاء الأمثل للمولودين حديثا (الرضع) خلال العام الأول من عمرهم، ولعل فوائد الرضاعة الطبيعية سواء للرضيع أو الأم قد كتب عنها الكثير بصورة موضوعية جعلت الأمهات في المجتمعات المتقدمة يتحولن إلى هذا الخيار الذي أغفلنه في فترة من الفترات. إلا أن اللجوء إلى الرضاعة الصناعية في بعض الحالات التي يتعذر فيها إرضاع الرضيع من ثدي أمه يعد أمرا لا مفر منه لتلبية الاحتياجات الغذائية لهذه الفئة العمرية، وبالطبع فإن الأم تلجأ في هذه الحالة إلى حليب الأبقار المعدل أو الذي تم تصنيعه لتتشابه نسب مكوناته مع نسب مكونات حليب الأم. صح ولكن.. قالت اللجنة: نسبة لعدم ملاءمة حليب الأبقار لتغذية الرضع، فلذا يجب عدم إعطائهم هذا الحليب. هذا الادعاء صحيح ولكنه ليس جديدا فلقد عرف المهتمون بالتغذية منذ زمن طويل أن حليب الأبقار غير المعدل غير مناسب لتغذية الرضع خلال الأشهر الستة الأولى من عمرهم، لأن تركيبه يختلف عن تركيب حليب الأم. كما أن الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال أوصت بعدم إعطاء الرضيع حليب الأبقار غير المعدل خلال الأشهر الستة الثانية من عمرهم ويعد عوز الحديد خلال هذه الفترة من العمر هو السبب الرئيس في عدم التوصية بإعطاء حليب الأبقار غير المعدل للرضع، إذ يعد حليب الأبقار فقيرا في الحديد ولا تستطيع الأغذية الأخرى التي يتناولها الرضيع خلال هذه الفترة التغلب على عوز الحديد. إضافة إلى أن حليب الأبقار غير المعدل يؤدي إلى فقد كميات قليلة ولكنها مؤثرة من الدم في براز بعض الرضع، لذا قد تفقد كميات من الحديد من هؤلاء الرضع عن طريق البراز ومن الواضح أن حليب الأم هو الأفضل على الإطلاق خلال السنة الأولى من عمر الطفل. أما أفضل الخيارات خلال هذا العمر للأمهات اللاتي لا يستطعن إرضاع أطفالهن طبيعيا فهو حليب الفورملا المعدل من حليب الأبقار والمدعم بالحديد. ليس شرطا قالت اللجنة: يسبب حليب الأبقار فقر الدم الناشئ عن نقص الحديد. قد يسبب حليب الأبقار هذه المشكلة التغذوية، لكن كما ذكر يجب عدم إعطاء الرضع حليب الأبقار غير المعدل خلال السنة الأولى وإنما يجب إعطاؤهم حليب أبقار معدلا مدعما بالحديد في حال الاعتماد على الرضاعة الصناعية ومعظم أنواع حليب الرضع التجاري مصنوع من حليب أبقار تم تعديله لكي تتشابه مكوناته مع مكونات حليب الأم، ويضاف للعديد منه عنصر الحديد كما يتعرض هذا الحليب المصنع إلى معاملات حرارية كافية لتثبيط العامل المسؤول عن إحداث فقر الدم في الأمعاء. كما أن الرضيع الذي يتناول كميات كبيرة من الحليب دون تناول أغذية صلبة أخرى غنية بالحديد بعد الشهر الرابع أو السادس، قد يتعرض لفقر الدم الناشئ عن نقص الحديد، لذا يحتاج الطفل بعد الشهر الرابع أو السادس إلى وجبة متزنة مكونة من الحليب والأغذية الأخرى التي تتناسب مع سنه في هذه المرحلة، وذلك بهرس الحبوب واللحوم والخضراوات والفواكه لكي يستطيع تناولها. وبالطبع فإنه من الخطأ نصح الأمهات بالتوقف عن إعطاء الحليب لأطفالهن خلال هذه المرحلة لحل هذه المشكلة. لفئة خاصة جدا وقالت اللجنة: يعد حليب الأبقار من الأغذية المسببة للحساسية. تعد الحساسية للأغذية أقل شيوعا في الحقيقة مما يعتقده الكثير من الناس ومما لاشك فيه أن حليب الأبقار أحد الأغذية المسببة للحساسية لدى بعض الناس وهنالك فئة قليلة من الأطفال لديها حساسية للحليب، وفي هذه الحالة يجب تجنب أي نوع من الحليب يسبب هذه المشكلة، ولكن ليس هنالك أي سبب لنصح جميع الناس بالتوقف عن شرب الحليب. الحل متوفر.. وقالت اللجنة: منتجات الحليب غنية بالدهون والكولسترول لذا فإنها تسبب أمراض القلب. يجب على الناس الذين يهتمون بالدهون والكولسترول عدم تجنب منتجات الألبان، وإنما عليهم اختيار المنتجات اللبنية المنخفضة الدهون، فمثلا الحليب الفرز أو الحليب منخفض الدهن خيار مناسب للأشخاص الذين يتبعون نظام وجبات منخفضة الكولسترول. كما أن هنالك خيارات أخرى من اليوغرت والأجبان المنخفضة الدهون مع العلم أن الأغذية الأخرى مثل اللحوم تحتوي على نسبة مرتفعة من الدهون، ويمكن اتباع الإرشادات لتقليل الدهون منها وليس حذفها ليتمكن الإنسان من الحصول على الوجبة المتزنة. كلام غير دقيق..! وقالت اللجنة: الحليب يسبب مشكلات هضمية. تعاني بعض الأثنيات العرقية مثل الأمريكيين من أصل آسيوي أو إفريقي من أعراض معوية عند شربهم لكميات من الحليب لأسباب وراثية حيث لا يستطيعون هضم سكر اللاكتوز وهو السكر الموجود في الحليب، وتسمى هذه الظاهرة بسوء هضم اللاكتوز ولا يلزم هذه الفئة حذف كل منتجات الحليب من الوجبة، وإنما عليهم اختيار منتجات الحليب التي يحدث فيها تحول لسكر اللاكتوز حيث إن الأجبان مثل التشدر والجبن السويسري وغيرهما من الأجبان لا تحتوي على اللاكتوز الذي يتحول عند تصنيع هذه الأجبان إلى حمض اللبن، كما يمكنهم الاعتماد على اليوغرت الذي يعتمد تصنيعه على المبدأ نفسه، إضافة إلى أن البكتيريا المستخدمة في تصنيعه تقوم بهضم اللاكتوز وتحويله إلى حمض لبن حتى داخل الأمعاء. كما يوجد في الصيدليات إنزيم اللاكتيز وبإمكانهم شراؤه وإضافته للحليب للتخلص من اللاكتوز، أو استهلاك كميات قليلة من الحليب حتى لا تحدث هذه الظاهرة. ادعاء باطل..! وقالت اللجنة: يسبب الحليب مرض السكري. يعد هذا الادعاء باطلا على الإطلاق واعتمدت اللجنة في ادعائها على تفسير نتائج مضللة حيث أشار بعض العلماء إلى هذه المشكلة قبل سنوات عديدة وادعوا أن شرب حليب الأبقار مبكرا خلال مراحل العمر الأولى قد يؤدي - البروتين الموجود فيه - إلى حدوث النوع الأول من مرض السكري لدى بعض الناس ويعد هذا النوع من مرض السكري أكثر وطأة من النوع الثاني ويبدأ عادة في الأطفال. ولهذا المرض سبب وراثي قوي مقارنة بالنوع الثاني الذي يصيب البالغين كما أنه غير مرتبط بالسمنة. تظهر أعراض الإصابة بالسكري من النوع الأول لدى الأشخاص الذين لديهم الاستعداد الوراثي في حين لا تظهر على الآخرين وتلعب العوامل البيئية دورا أيضا في ظهور أعراض المرض، وقد يكون بروتين حليب الأبقار أحد هذه العوامل لأنه يؤدي إلى زيادة الإصابة بالمرض في بعض حيوانات التجارب وعلى كل حال قد لا تنطبق الأعراض التي تظهر على حيوانات التجارب على الإنسان. أفادت بعض الدراسات المجراة على الإنسان أن استخدام الرضاعة الطبيعية لفترة أطول أو تأخير استخدام حليب الأبقار لرضاعة الطفل أديا إلى انخفاض نسبة الإصابة بالسكري من النوع الأول إلا أن دراسات أخرى لم تصل إلى رأي قاطع في ذلك. إضافة إلى ذلك فإن السكري من النوع الأول أصاب أطفالا لم يتعرضوا في تغذيتهم إلى حليب الأبقار بأي شكل من الأشكال. أما أكثر الدراسات غرابة فتلك التي نشرت في صيف عام 1992م والتي أوضحت أن المرضى الذين شخصوا بإصابتهم بالسكري من النوع الأول أظهر التحليل المجرى عليهم وجود مستويات عالية من الأجسام المضادة ضد أنواع معينة من بروتين الأبقار في حين كان الأشخاص الأصحاء يمتلكون مستويات متدنية من هذه الأجسام المضادة. وبالرغم من هذا الادعاء إلا أن العلماء لا يعرفون ماذا تعني هذه النتائج؟ فقد يكون ارتفاع مستوى الأجسام المضادة نتيجة لاختلال التمثيل في الجسم عند الإصابة بالسكري وليس سببا لحدوث السكري. لذا فإن هذه الدراسة الأولية جعلت المختصين لا يوصون بإجراء أي تحوير في الوجبة يطال الحليب أو منتجاته حتى في الأطفال الذين يمتلكون الاستعداد الوراثي للإصابة بالسكري من النوع الأول، واتخذت أكاديمية الأطفال الأمريكية موقفا حادا من لجنة الأطباء المسؤولة عن الطب الموثوق في هذه القضية واتهم المتحدث الرسمي لأكاديمية الأطفال الأمريكية هذه اللجنة بترويج الإرهاب التغذوي وتخويف الآباء من الحليب بناء على هذه الدراسة الأولية. وهذا إرهاب كاذب وقالت اللجنة: يحتوي حليب الأبقار على ملوثات خطيرة. يجب القول أولا إن حليب الأبقار أكثر الأغذية التي يطبق في حقها التشريعات الغذائية في الولايات المتحدة والتشريعات صريحة في عدم احتوائه على بقايا أي أدوية أو مضادات حيوية. كما أنه أقل عرضة للتلوث ببقايا المبيدات. إلا أنه يجب القول إن إضافة فيتامين (د) إلى الحليب بغرض التدعيم يعتبر أمرا جيدا إذا التزم المصنعون بالحدود الموصى بها، وقد أدت سياسة التدعيم هذه إلى التخلص من مشكلات نقص فيتامين (د) إلا أن المشكلة تكمن في الخوف من إضافة كميات كبيرة من هذا الفيتامين تؤدي إلى مشكلات التسمم به. وقد أظهرت دراسة بالفعل أن هنالك مشكلات تتعلق بانخفاض كميته في بعض عينات الحليب، في حين ترتفع في عينات أخرى. وقد أدت زيادة الكمية المضافة إلى بعض المشكلات في ولاية ماسيسيشوتش، لذا فإنه من الواضح التأكيد على فرض رقابة وضبط للتأكد من الكميات المضافة من هذا الفيتامين، ولاشك أن التشريعات موجودة أصلا ولكن يعوزها صرامة التطبيق. ويرى مسؤولو التغذية والصحة أن سياسة تدعم الحليب بفيتامين (د) يجب أن تستمر للتخلص من الكساح خصوصا في المناطق الشمالية المرتفعة من الولايات المتحدة الأمريكية التي قد لا تكون فيها أشعة الشمس كافية لإمداد الجسم ببعض احتياجاته من هذا الفيتامين وإن كانت شمسنا العربية قد وفرت لمنتجي الحليب تكاليف هذا التدعيم وكفتهم مثل هذه الادعاءات والحمد لله. كما أنه من غير الحكمة النصح بعدم شرب الحليب كما ادعت لجنة الأطباء المسؤولة عن الطب الموثوق للتخلص من مشكلة سمية فيتامين (د). جدل عقيم.. وفكر أعوج! وقالت اللجنة: شرب حليب الأبقار يعد إجراء مخالفا للطبيعة حيث إن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يشرب حليب الأجناس الأخرى. إن الدخول في جدل مثل هذا النوع يقود إلى القول بأن جميع الأشياء التي يتناولها الإنسان يعد مخالفا للطبيعة لأن الإنسان لا ينتجها (مثل حليب الأم مثلا) وإنما يعتمد الإنسان في غذائه على ما وهبه الله له في هذه الأرض من مقومات الحياة وكيف أن الخالق سبحانه وتعالى سخر للإنسان كل مقومات حياته سواء مما تنتجه الأرض بشكل مباشر (الأغذية النباتية)، أو بشكل غير مباشر (الأغذية الحيوانية) وهداه إلى تطوير سبل معيشته ومن هنا ظهرت صناعات الألبان والحبوب وغيرها. أما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عندما اختار الحليب بأنه موافق للفطرة؟ الغذاء والتوازن.. وقالت اللجنة: لا يحتاج الإنسان لشرب الحليب لأنه من السهل عليه الحصول على الكميات الكافية من الكالسيوم من أغذية أخرى. تقول القاعدة التغذوية التي تنصح بالوجبة المتزنة إنه من الصعب الحصول على الكميات الكافية لجسم الإنسان من عنصر الكالسيوم في غياب الحليب ومنتجاته من الوجبة، لذا تعد مجموعة الحليب ومنتجاته إحدى المجموعات التي تكون الهرم الغذائي وهو الدليل المعتمد للحصول على الوجبة المتزنة. ومما لاشك فيه أنه يمكن الحصول على الكالسيوم من مصادر غذائية أخرى غير الحليب ومنتجاته ولكن ليس بالكميات الكافية لاحتياجات الجسم ومن المعروف أهمية كمية ونوعية العنصر في التغذية الجيدة، فمثلا للحصول على كمية كافية من الكالسيوم من وجبات خالية من مجموعة الحليب ومنتجاته يتطلب تناول كميات كبيرة من أنواع معينة من الأغذية قد لا يفضلها الأطفال مثل الأسماك أو الخضراوات الورقية والبروكلي والبقوليات (كوب واحد من البقوليات + كوب واحد من الخضراوات الورقية يحتويان على كمية من الكالسيوم تساوي الكمية الموجودة في كوب من الحليب). ولعله من نافلة القول أن لجنة الأطباء المسؤولة عن الطب الموثوق لم تستطع تخطيط وجبة خالية من الحليب ومنتجاته تحتوي على الكميات الكافية من الكالسيوم، وقد لجأوا في النماذج التي قاموا بإعدادها إلى التوصية باستخدام الأغذية المدعمة صناعيا بالكالسيوم (حليب الصويا المدعم بالكالسيوم وعصير البرتقال المدعم بالكالسيوم) للتأكد من الحصول على الكمية الكافية من هذا العنصر. ماذا بعد؟ يمكن القول بعد هنا الرد على الادعاءات أنه لا توجد اعتبارات علمية لآراء لجنة الأطباء المسؤولة عن الطب الموثوق في حملتهم لحذف حليب الأبقار من الوجبات. وكما صرح الدكتور رونالد كلينمان من أكاديمية طب الأطفال في رده على هذه اللجنة فإن الحليب ومنتجاته أغذية آمنة ومغذية للأطفال وعلى الآباء الحرص على إعطائهم هذه المنتجات، إلا إذا كان هنالك سبب طبي واضح أو أسباب خاصة للامتناع عن ذلك. وأردف قائلا: إن منتجات الحليب بالطبع ليست أغذية كاملة ولكنها تحتوي على العديد من العناصر الغذائية التي يحتاج إليها الأطفال في مرحلة نموهم. ولعل من المثير للدهشة أن يستغرب الإنسان كيف أن هذه اللجنة قد أصدرت آراء غير مسؤولة وتجاهلت الأدلة العلمية في طرحها اللامسؤول وركزت على دراسة أولية مثل مرض السكري وعلاقته ببروتينات الحليب دون الأخذ في الحسبان الطرح المتوازن للدراسات الغزيرة التي أجريت على الحليب من النواحي التغذوية والتقنية؟ ولعله من المفيد تذكير القارئ بأن هذه اللجنة لها ميول قوية لفلسفة النباتيين، وما أدراك ما النباتيون..!