لماذا يبدو الماضي أجمل؟

ما زال المنزل الذي نشأت فيه يسكنني. غرفتي مع أشقائي. الصالة التي شهدت صولاتنا وجولاتنا. المطبخ الذي كنا نعبث في أرجائه أثناء الإجازات. حاولت مرارا زيارته لاسترجاع ذكرياتي فيه. لكن في كل مرة تتاح لي الفرصة وأكون على مسافة خطوات معدودة منه أتراجع في اللحظة الأخيرة وأصرف النظر عن هذه الفكرة نهائيا بلا سبب وجيه. وجاءت اللحظة التي لا مفر منها. اتفقنا أنا وشقيقي ماجد على زيارة البيت. لم يعد الأمر في يدي. فلا مجال الآن للتراجع. دخلناه معا ويا ليتنا لم نفعل.

 فقد كان حدسي في محله. لم يكن أبدا هو البيت ذاته الذي سكناه في طفولتنا. كل شيء بدا أصغر وأضيق. لم أصدق أن هذه هي الصالة التي طالما لعبنا فيها الكرة. فما عثرت عليه لا يمنحني الفرصة حتى أن أركض خطوتين فيه إثر ضيقه فأين إذن أقيمت المباريات المثيرة التي جمعتني وأقاربي على أرضها في ذاكرتي؟ منذ أن غادرت منزلنا العتيق خائبا شرعت في قراءة تفسير علمي لهذه الحالة التي تجعل الأماكن التي عشنا فيها في الماضي أرحب من الواقع، والذكريات أجمل من الحاضر. 

ووجدت تحليلات علمية جميلة كلها تركز على العاطفة فأحببت أن أتقاسمها معكم: عندما تنمو وتطول وتكبر تتغير نظرتك للأشياء تماما. فما كنت تراه كبيرا وأنت صغير ليس حقيقيا. فهو كبير بالنسبة إلى حجمك الضئيل، وقتئذ. لكنه خلاف ذلك واقعيا. فقد خدعتك عاطفتك التي خزنت الصورة في ذاكرتك بهذا الحجم الضخم والمساحة الرحبة. 

تعمل الذاكرة لدينا على تخزين الذكريات كما نراها ونتخيلها نحن. فهي ليست مثل الهارديسك "القرص الصلب" تخزن المعلومات كما يتم إدخالها بالضبط. فالذاكرة البشرية هي صيغة تعالج البيانات الحسية بشكل عاطفي. وتعتبر العواطف مراكز معتلة في الدماغ تقوم باسترجاع الذكريات على نحو غير دقيق. يحتاج الدماغ إلى العاطفة لترتيب أولويات الذاكرة. فالعاطفة تجعلك تتذكر وجه والدتك جيدا حتى لو غبت عنها لفترة طويلة، بينما تنسى وجه شخص جلس بجوارك في الطائرة قبل قليل. 

فالدماغ يستخدم هذا الانحياز ليعيد تجميع المعلومات بشكل أسرع واسترجاعها بشكل أسهل. فلذلك تبدو ذكرياتنا غير دقيقة مقارنة بالواقع. فقد ضخمتها عاطفتنا أكثر مما يجب وأعطتها بعدا يمتزج بالخيال قليلا. وهذا ما يفسر دائما حنيننا للأشياء الماضية التي رحلت وغابت ومضت بينما لا نستمتع كثيرا بواقعنا الراهن لأنه بلا خيال ولا تضخيم ولا تجميل. ومع الأسف لا نبدأ بتقدير هذا الواقع إلا عندما يحزم حقائبه وأمتعته ويغيب.

بقلم: عبدالله المغلوث - الاقتصادية