أسواق السمك..... أسماك طازجة وذمم فاسدة!

كواليس أسواق بيع الأسماك تحفل بالكثير من صور الغش والتحايل.. وربما يكون أكثرها شيوعا هي القدرة غير العادية لبعض باعة الأسماك على إقناع المشترين بأن السمك المبرد المحفوظ في الثلاجة لأيام عدة ما هو إلا سمك طازج، في حين يعمد بعضهم إلى طلاء خياشيم السمك البائت باللون الأحمر حتى يبدو طازجا للناظرين.. فإذا ما ظهرت على ملامح المشتري علامات الشك أو عدم التصديق، فسرعان ما يقطعه البائع بحلف الأيمان المغلظة بأنه يقول الحق! وحتى ينطلي الأمر أكثر على المشترين، يقوم باعة آخرون بوضع السمك الطازج فوق المجمد البائت ويعرضه للبيع بسعر أقل بعض الشيء من الأسعار المعلنة للسمك الطازج كنوع من الإغراء وجذب المزيد من الزبائن، عفوا .. الضحايا! بين التجار.. الوضع مختلف قد يبدو هذا الأمر غريبا أو مفاجئا لبعضهم، ولذلك فإن الوضع يختلف بطبيعة الحال عن ذلك كثيرا عندما تكون المعاملة بين التجار والباعة بعضهم بعضا، فإذا أتيح لك أن تشهد مزادا للسمك، فلا شك أن أول ما ستلاحظه وسط الروائح المتداخلة التي تزكم الأنفاس، هو وجود كميات ضخمة من جميع أنواع الأسماك موزعة في كل ركن من أرض السوق.. وسوف ترى من بينها ما جلبته الثلاجات الضخمة للتو من المزارع السمكية أو من صيد البحر في الأسواق القريبة من المدن الساحلية، وتلك غالبا تكون على قيد الحياة، ومن العلامات الدالة على ذلك انتفاض بعضها بين الحين والآخر، وقد تعلو إحداها فجأة، لكنها لا تلبث أن تهبط لتلحق بقريناتها داخل الصندوق. وعندما يرسو المزاد في نهاية المطاف على أحد الباعة، فسرعان ما يحمل نصيبه وينطلق به إلى محله القريب من الحراج أو إلى سيارته إذا كان محل البيع يقع في مكان بعيد عن السوق.. وكل ذلك يتم غالبا بسرعة وسهولة رغم كثرة عدد الباعة والأسماك. الطازج في الصباح والمساء أول ما ينصحنا به باعة السمك حول الطريقة السهلة للحصول على أسماك طازجة ـ حقيقية ـ هي شراؤها في الصباح الباكر أو في وقت متأخر من المساء، ففي الغالب يقوم صيادو السمك بإفراغ صيدهم الطازج مرتين في اليوم، إحداهما في الصباح والأخرى عند المساء. وبعد تردد يخبرني تاجر الأسماك الحاج محمود عبيد وهو يبتسم: إن أهل السمك فقط هم الذين يميزون السمك الطري والجيد من غيره بمجرد النظر، لكن الحال يختلف بالطبع عن ذلك عندما يتعلق الأمر بالمستهلكين المساكين الذين يقعون أحيانا ضحايا لاحتيال بعض الباعة معدومي الضمير. والشيء الذي قد لا يعرفه الكثير من آكلي السمك وعشاقه، هو وجود علامات مميزة للسمك الطازج عن سواه، ومن بينها ـ كما أخبرني بذلك أحد الباعة المخضرمين بسوق السمك بالمربع في وسط الرياض ـ أن يكون جسم السمكة لامعا وخاليا من أي كدمات، ولونها طبيعيا، وعيناها لامعتين، وألا يترك الضغط على جسم السمكة أثرا بمكان الضغط، فقوام السمك الطازج يتميز بالتماسك، ويكون لون الخياشيم أحمر ورديا وخاليا من المخاط. ولم أنس أيضا أن أسأل الحاج عبيد عن طريقة سهلة تمكن الشخص العادي من التعرف على الأسماك الطازجة، فأجابني قائلا إن أسهل طريقة لذلك هي وضع السمكة في إناء مملوء بالماء، فإذا غطست فهذا دليل على أنها طازجة، أما إذا طفت فتكون فاسدة، مستدركا أن هذه الطريقة لا تصلح مع الأسماك المبردة، لأن الثلج يخفي الروائح الكريهة للسمك التالف إلى حد ما. وعندما أبديت ملاحظة حول ما إذا كانت الرائحة النفاذة التي تنبعث من سوق السمك دليلا على فساد بعض الأسماك، أوضح لي الحاج عبيد أن رائحة السمك الموجودة بالسوق لا تعتبر مؤشرا في حد ذاتها على أن السمك فاسد، فالروبيان المعروض للبيع مثلا لا بد أن تنبعث منه رائحة، ولكنها مسألة لا يعرفها سوى الذين عاشوا في أجواء الأسماك لسنوات طويلة. لا تأكل هذه الأسماك! ورغم الفوائد الجمة التي توصل إليها العلم فعلا فيما يتعلق بفوائد الأسماك على الصحة، إلا أنه في مقابل ذلك نجد أن الممارسات الخاطئة، سواء في وسائل الصيد أو الغش عند البيع، فضلا عن التلوث بشكل عام، كل ذلك قد ينجم عنه الكثير من المشاكل الصحية على المستهلكين. ونسأل الدكتور مسعد مسعد شتيوي أستاذ ورئيس قسم علم الحيوان بجامعة قناة السويس عن رأيه العلمي في ذلك، فيؤكد أن من شأنه التسبب في حوادث تسمم غذائي لا تحمد عقباها. ويضرب د.شتيوي مثالا أكثر شمولا، موضحا أن تلوث مياه الأنهار والبحار بمخلفات الصناعة يؤدي إلى تلوث الأسماك وبعض الكائنات البحرية بالمعادن الثقيلة، مثل الزئبق الذي يعد من أكثر المعادن الثقيلة سمية، خصوصا عندما يتم احتجازه في أجسامها وارتباطه بالدهن والبروتين، ثم ينتقل إلى الإنسان عند استهلاك الأسماك الملوثة فيؤدي إلى إصابة جسمه ـ وبخاصة الجهاز العصبي ـ بالتسمم. ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد كما يؤكد شتيوي، فالسمك الملوث يؤثرعلى أمخاخ الأجنة في بطون أمهاتهم عند تناول الأمهات لها. وربما لهذا السبب، تعرضت منظمة الغذاء والدواء الأمريكية لهجوم شديد من قبل المختصين والمهتمين بالصحة العامة لعدم تبنيها توصيات الأكاديمية القومية للعلومNAS في الدراسة التي أجرتها عن الزئبق في الأطعمة البحرية، وأيضا بسبب عدم إعطاء معلومات كافية للحوامل عن الأسماك التي يجب عليهن تجنبها في أثناء الحمل (وبخاصة التونة). ويعد الكادميوم أيضا من المعادن الثقيلة الشديدة السمية ذات التأثير التراكمي، وتظهر آثاره السيئة ربما بعد مرور العديد من السنوات، إذ يؤدي في الحالات المتقدمة إلى الفشل الكلوي ولين العظام بسبب حلوله محل الكالسيوم في العظام. مغرية لكنها سامة! ولأنه توجد بعض الكائنات البحرية التي يبدو من هيئتها من أول وهلة أنها جيدة وصالحة للتناول، ربما بسبب شكلها أو منظرها المغري، إلا أنها تكون في الوقت ذاته سامة وغير صالحة للاستهلاك. وقد رصد الدكتور حسني محمد أبو الدهب أستاذ علوم البحار بجامعة جنوب الوادي بعض هذه الكائنات، وهو يحدثنا عن تجربة علمية مثيرة أجراها على أرانب البحر قام خلالها باستخلاص بعض المكونات الطبيعية منها، وحقنها في مجموعة من فئران التجارب.. وقد أصيبت الفئران جراء ذلك بالهيجان والجنون، فكانت تجري بشكل هستيري في العديد من الاتجاهات، وأفرزت كميات وفيرة من العرق في جميع أجزاء الجسم، وسرعان ما قل نشاطها شيئا فشيئا، إلى أن ماتت بعد ساعتين تقريبا من عملية الحقن، مما يدل على تعرض الجهاز العصبي بها لتأثير سيئ نتيجة حقنها بالمركبات المستخلصة من أرانب البحر. غير أنه في الوقت نفسه تم استخلاص بعض المركبات البروتينية الموجودة في أرانب البحر، والتي تبين أنها مفيدة صحيا وغذائيا للإنسان. الطريف أن السبب في تسمية هذه الكائنات البحرية بالأرانب ـ حسب ما يوضح د.أبو الدهب ـ هو أنها تتميز بوجود زوج من اللوامس التي تشبه في شكلها أذني الأرنب البري، كما أنها تلتصق على الصخور ويرتفع وسط الجسم لأعلى كما يفعل الأرنب تماما، ومن هنا سميت بالأرانب البحرية. ويضيف د.أبو الدهب أن أرانب البحر تعيش ملتصقة بالصخور وتتغذى على الطحالب الخضراء والصفراء والزرقاء، وهي منتشرة في العديد من المسطحات المائية في العالم، وتتميز بقدرتها الفائقة على التكاثر والهجرة عبر البحار عن طريق الالتصاق بالسفن والانتقال من مكان إلى آخر بالرغم من أنها بطيئة الحركة. وتبرز أهمية هذه الكائنات في كونها تشكل مصدرا للعديد من المستخلصات الطبيعية المستخلصة منها، والتي تستخدم حاليا في العديد من مضادات الأورام والفطريات والبكتيريا والمضادات الحيوية. وقد استخلص الصينيون قديما مسحوقا من أرانب البحر واستخدموه في علاج بعض أمراض العيون كالرمد الحبيبي والربيعي وغيرهما. أكثر من ذلك، اكتشف أن الرومان استخدموا أرانب البحر قديما في قتل أعدائهم وذلك بتقديم وجبة شهية لهم من أرانب البحر الطازجة ما يؤدي إلى موتهم بعد فترة وجيزة. ويحذر الدكتور أبو الدهب كذلك من بعض أنواع المخروطيات البحرية، رغم أنها تؤكل في اليابان والصين وسكان بعض الجزر والمناطق الساحلية الأخرى، وذلك بعد غليها في الماء مع إضافة بعض السمن أو الشحوم، ثم تخرج من الإناء ويستخرج الجزء اللحمي من داخل الصدفة.. ولقد أثبتت الدراسة التي قام د.أبو الدهب بإجرائها على هذه المخروطيات أنها سامة وتحتوي على غدة لتكوين السم وحويصلة للتخزين ثم كيس به مجموعة من الأسنان الإبرية التي تلدغ بها الفريسة. وبسبب تناول هذه المخروطيات للرخويات والديدان والأسماك الصغيرة، فإنها تحقن فرائسها بوساطة أسنانها الإبرية وتفرز عليها جزءا من سمومها فتتخدر أو تموت الفريسة في الحال. ثم تخرج خرطومها وتلتهمها. وإذا تعذر على المخروطيات الوصول إلى الجزء الرخوي بسبب وجود صدفة مثلا، فإنها تستطيع بأسنانها فتح ثقب فيها لإدخال خرطومها وتناولها. ورغم أن سموم هذه المخروطيات لا تؤثر كثيرا على الإنسان إلا أنها مهيجة للجلد وتحدث الآلام الناجمة عن الوخز بإبرتها. فعند مسكها باليد مثلا سرعان ما تخرج أسنانها وتلدغ الإنسان، مع ملاحظة أن لحومها شهية، وتحتوي على كميات وفيرة من البروتين والبطارخ التي تضاهي بطارخ الأسماك. وأما سمومها فإنها تفقد خصائصها وتتفكك بمجرد وضعها في ماء يغلي في درجات حرارة عالية. رصاص يغتال الأسماك! أما الدكتور فوزي الفيشاوي أستاذ علم التغذية المساعد فيحذر من أن ما تلقيه المصانع سنويا من رصاص في مياه البحار، يزيد على 250 ألف طن، وهو ما أدى إلى تضاعف كمية الرصاص بمياه المحيطات خمس مرات في السنوات الأخيرة. ولا ريب أن المحصلة ستكون وبالا على سائر الأحياء المائية، ولاسيما الأسماك والمحاريات، ما يجعلها مصدرا خطرا على صحة الإنسان عند تناولها. ولأجل ذلك، أصدرت منظمة الصحة العالمية توصيات تحظر أكل الأسماك التي يزيد محتواها من الرصاص على 500 جزء في البليون. وعلى إثر ذلك، أجرى باحثون أوروبيون تحليلات دقيقة للعديد من أنواع الأسماك والمحاريات القريبة من المناطق الصناعية، بينت وجود الرصاص بنسبة بلغت 2000 جزء في البليون.. وعثر الباحثون في إندونيسيا على تركيزات من الرصاص زائدة بمقدار 44? عن الحد الأقصى المقبول وذلك في أسماك ومحاريات خليج جاكرتا.. وفي ماليزيا، ظهر الرصاص في أنسجة الأسماك المصطادة من أنهارها، بمستويات غير مقبولة.. وكذلك الحال في أسماك نهر هان في كوريا، ونهر سقاريا في تركيا، ونهر بارايبا ونهر غواندو في البرازيل.. وأظهرت دراسة أجريت في خليج تسالونيك باليونان أن تركيز الرصاص في أنسجة الأسماك التي تعيش في المنطقة القريبة من مصنع لإنتاج رباعي إيثيل الرصاص تراوح بين 150جزءا إلى480 جزءا من المليون. وثمة دراسة أخرى حول التراكم الحيوي للرصاص في أنسجة محاريات Meretrex meretrex، التي توجد في منطقة شاطئ نصف القمر بالخليج العربي، أبانت أن معامل التراكم الحيوي وصل إلى 1579، و كان تركيز الرصاص في المياه 0.076 ميكروجراملتر، في حين كان التركيز في أنسجة المحاريات 120 ميكروجراماكيلو جرام. ويدق خبراء الأغذية ناقوس الخطر بعد أن قاموا بتحليل الأسماك والمحاريات المصطادة من البحر الأبيض المتوسط، وخصوصا عند شاطئ المكس بالإسكندرية، وهي المنطقة الأقرب إلى مصانع البتروكيماويات ومعامل تكرير البترول التي درجت على صرف نفاياتها في المياه دون معالجة فاعلة.. وكذلك الحال بالنسبة لأسماك نهر النيل في المنطقة القريبة من مدينة القاهرة، حيث كشفت دراسات مهمة عن وجود رصاص بتركيزات تزيد عن الحدود المقبولة عالميا، بمقدار ضعفين إلى ثلاثة وعشرين ضعفا، بسبب ما تلقيه المصانع القريبة من نفايات ملوثة في النهر مباشرة. ولقد أثبت محللو الأغذية أن أنواعا كثيرة من الأسماك تختزن الرصاص في رؤوسها، في حين تفضل أخرى جهازها الهضمي، كما وجدوا أن أسماك البوري تفضل توزيع مخزونها من الرصاص في سائر أعضاء جسمها. إذا.. ما عسانا أن نفعل؟ هناك بعض القواعد الأساسية الجديرة بالاهتمام، حسب ما يوصينا به المختصون في التغذية ضمن هذا التحقيق، قائلين إن من شأنها أن تقلل ـ بإذن الله ـ من احتمالات التسمم بالأكلات البحرية، أو على الأقل تحد من انتشارها، ومن أهمها: ـ طهي الوجبة البحرية جيدا، بشكل يضمن قتل الأحياء الدقيقة الضارة التي قد تكون كامنة بها. ـ فصل الأطعمة بعضها عن بعض، فمن الخطأ بمكان وضع السمك النيئ مع أطعمة أخرى في مكان واحد، فهذا يسهل انتقال التسمم من السمك إليها، والعكس صحيح. ـ تبريد الأكلات البحرية النيئة جيدا، فهذا يحول دون تكاثر الأحياء الدقيقة فيها.