نحو تطوير النحو العربي

تعرف الأمم، وبخاصة في مراحل ضعفها وعجزها، هجوما على مقوماتها، ومنها اللغة، وليس كاللغة العربية لسانا تعرض للنقد، حتى غدت هدفا للهجوم المتواصل، وبخاصة أن العربية لغة القرآن الكريم، وهو الذي استطاع أن ينشرها ويجعل منها لغة عالمية. والعربية بذلك تحمل بعدا ثابتا (استاتيكيا) مقدسا، إلا أنها في الوقت ذاته تتضمن، كغيرها من اللغات، بعدا ديناميكيا بشريا يستند إلى أنها أداة للتفاهم بين أبناء أمة العرب، أي أنها تعتمد على ما يصوغونه بها من مصطلحات تزداد وتتطور يوما بعد يوم، ويعتبر هذا البعد الديناميكي العامل الأول في نمو أو ضمور العربية، ويعني هذا ضرورة استيعاب اللغة ما يقذفه الشارع العلمي من مصطلحات كثيرة في عالم الاستخدام، وهي تقدر بالعشرات في كل يوم، وإذا كان العلم قوة، فإن القدرات العلمية لأي أمة تحدد قوتها الاقتصادية والعسكرية، وبالتالي مكانتها السياسية في عصر العولمة. لقد استوعبت العربية كل ما كان لدى الأمم القديمة من فكر وعلم بفضل اشتقاقاتها الكثيرة وقدرتها على تمثل الأفكار والمعارف، وهي قد أضافت إليها إضافات كثيرة، وظلت تقود العالم علميا طوال ستة قرون متعاقبة، وحين خرجت العربية من الجزيرة العربية مع الفتوح الإسلامية بعذوبة لسانها وبيانها استوعبت جميع اللغات التي التقت بها من غربي آسيا إلى المحيط الأطلسي وإفريقيا، لقد قهرت السريانية واليونانية في الشام، والقبطية واليونانية في مصر، والآرامية، والنبطية في العراق، والفارسية في إيران، واليونانية واللاتينية والبربرية في المغرب، واللاتينية والرومانية في الأندلس. لقد نحت العربية هذه اللغات عن ألسنة شعوبها، وحلت محلها، وهذا ما رشح العربية لأن تغدو لغة عالمية، فبفضل القرآن الكريم، وبقوتها الذاتية، استطاعت أن تبلغ ذلك، وهي لم تصبح عالمية لغويا فحسب، بل أصبحت عالمية ثقافيا أيضا، فقد استوعبت الثقافات التي سبقتها وعايشتها. وفي هذه الأيام، قد لا يختلف اثنان على أن العربية تعاني بعض مظاهر التخلف عن العصر، لأنها لم تف بالاحتياجات التنموية للمجتمعات العربية ولمتطلبات العصر، ومن بين هذه المتطلبات فروض العولمة والمعلوماتية التي أصبحت مصدر القوة والثروة، ويلقي البعض المسؤولية على عاتق العربية وواقعها الذي يتسم بالازدواجية فصحى وعامية- باعتبار ذلك من العوامل الرئيسة التي ساعدت على تخلف العقل العربي، إن تقرير الأمم المتحدة عن التنمية البشرية في الوطن العربي يعبر بصراحة ووضوح عن الحالة الراهنة المؤلمة للأمة العربية، وبخاصة في ميادين الثقافة والعلم والتقانة (التكنولوجيا)? وتشتد الشكوى من جمود اللغة العربية وعدم قدرتها على الإبداع لدى مقارنتها بلغة كانت ميتة- هي اللغة العبرية، بالرغم من اشتراك اللغتين في مصدر اشتقاق واحد، وفي كثير من النواحي الصرفية والنحوية. إننا نعيش حالة ازدواجية في اللغة، فلكل قطر عربي لهجته الخاصة التي يستعملها أفراده في التواصل اليومي، في حين أن الفصحى واحدة في جميع أقطار الوطن العربي، فهي العنصر الموحد بين شعوب الأمة الواحدة، لكن لا بد لنا من أن نشير إلى أن التدابير الجمركية والأمنية بين الأقطار قد أصبحت حدودا فاصلة ثقافيا في حين أن العالم كله أصبح، كما يقال، قرية صغيرة، لقد أصبحت هذه الحدود- وبخاصة الثقافية- من مستلزمات الفكر القطري الذي يسود الأنظمة العربية. إن الحجة التي يستند إ ليها أنصار العامية هي أن تعلم قواعد اللغة ونحوها بات أمرا يستعصي على طلاب المدارس والجامعات، فلا يستطيعون استخدامها، ويتساءل هؤلاء الأنصار ما إذا كان ممكنا استخدام إحدى اللغات الأجنبية في تلقين العلوم، أو استخدام العامية، بعد أن أصبحت العربية- في نظر هؤلاء- لغة تراثية لا تلائم العصر. لا ريب في أن ضعف الكفاية اللغوية للناطقين بالعربية ينسب إلى عوامل كثيرة، منها: هشاشة الموقع الذي يشغله الوطن العربي في حلبة التنافس الحضاري والتسابق العلمي، وضعف الوسائل التي تواجه بها العربية عالم اليوم، وقواعد النحو والصرف، وقصور تعريب المصطلحات الأجنبية، وقصور ترجمة المراجع العالمية. وعلى هذا فإن العربية تنحدر اليوم نحو الجمود تاركة الساحة للغات الأجنبية- وبخاصة الإنكليزية- كي تغزو الوطن العربي، وهنا لا نذهب مذهب الذين يفسرون هذا الواقع بأنه مؤامرة استعمارية تستهدف ديننا أو هويتنا أو انتماءنا القومي. إننا أمام ثلاثة خيارات: أولها أن نضع العربية جانبا فنتركها عل أساس أننا ورثناها دون تطوير، فنجمدها تراثا نتعامل معه على أنه تراث موروث يعيش معنا ونعيش معه على قدر ما يسمح به الزمان. وهنا يظهر الخيار الثاني، وهو الذي يدعو إليه بعض المثقفين، وهو أن نتخذ عوضا عن العربية التراثية لغة قوم آخرين- وهي اليوم الإنكليزية-. والخيار الثالث هو أن نقف مع لغتنا ونعمل لترسيخ المفهوم الذي يقول إنها هي الوعاء لثقافتنا وعلومنا، ونحولها إلى أداة يتعرف العالم من خلالها علينا ونتعرف عليه من خلالها، وهي أداتنا لتأسيس أو إحياء حضارة عربية. ولعل التعريب والترجمة هما وسيلتان من الوسائل التي نستعملها لنتعرف على التطورات العلمية والتقانية في العالم، وهنا ننعى على أنفسنا تهاونها، ذلك أننا على يقين بأن بث الحياة في العربية يحتاج إلى قرار سياسي من مستوى القمة على أساس أن تنشئ القمة العربية مؤسسة للترجمة وأخرى للتعريب، فالأمر يحتاج إلى قرار موحد، ونحن بذلك لا نحمل القمة العبء، بقدر ما نسعى إلى البحث عن جهة عربية تحمل ذلك العبء، ولتكن في تصورنا، جامعة الدول العربية وجناحها الثقافي هي تلك الجهة. وإذا ما استعرضنا تاريخنا، فإننا نلاحظ أن لدينا بدايات محمودة، ولكننا نتساءل هل أكملنا المشوار، وهو جد طويل، هل اتجهنا نحو إحلال الفصحى محل العامية القطرية التي يشيع استعمالها في حياتنا اليومية، حتى أن بعض الفضائيات والإذاعات تنطق بالعاميات في بعض برامجها، فضلا عن الأفلام والمسلسلات والمسرحيات، يضاف إلى ذلك بعض الإعلانات تتصدر أمكنة الإعلان والصحف والمجلات وهي بالعامية. المشكلة هي أن تجميد العربية تمثل في الرفض القاطع لأي تطوير للنحو العربي، في حين أن هناك فرقا جوهريا بين اللغة والنحو، فاللغة ظاهرة طبيعية لها وظيفتها وتحكمها قوانينها الخاصة بها، في حين أن النحو يمثل تصور النحاة لهذه القوانين. وعلى هذا فالنحو ليس ظاهرة طبيعية بل هو تصور قد يصيب وقد يخطئ، ولنا أن نشير إلى أن نحو العربية الذي كتب منذ أكثر من ألف عام يتطلب نظرة تستفيد من التقدم الذي أحرزته اللسانيات الحديثة، ويعني هذا أن يفتح من جديد باب الإبداع في النحو، فكما أبدع أسلافنا لنا أن نبدع أيضا.