المقاومة والإرهاب ..بين الإسلام والغرب
ن القضايا الهامة التي طرحت نفسها على الساحتين الفكرية والسياسية، وفي المجالين الإسلامي والغربي، والتي باتت تشكل بحق إحدى أهم الإشكاليات المؤسسة، بل والمرسخة للتفارق التاريخي بين هذين العالمين، قضية المقاومة لأشكال القهر والتسلط التاريخي الواقعة على بعض أجزاء العالم الإسلامي، والتصنيف الغربي الظالم لهذا الشكل الإنساني الساعي إلى كرامة وحرية إنسانية لا غبار عليها، وذلك عبر استسهال قراءتها وإحالتها إلى خانة الأفعال الإرهابية المجردة من كل بعد إنساني ومعيار أخلاقي. فمن المعروف أن جهودا كبيرة بذلت من أجل وضع تعريف محدد للإرهاب يتفق عليه المجتمع الدولي، أو يلاقي قبولا لدى الثقافات والشرائع المختلفة في العالم. ورغم الاتفاق على المفاهيم العامة المحددة للإرهاب، إلا أن التعارض في المصالح والاختلاف في المواقف السياسية قد أفشل جميع الجهود التي بذلت في هذا السياق. ففي الوقت الذي حرصت فيه الدول والشعوب التي تتعرض للاحتلال الأجنبي على التمييز بين جرائم الإرهاب التي تمارس بحق هذه الشعوب عبر اضطهادها وقهرها وإفقارها، وبين العنف الذي تضطر الشعوب إلى ممارسته مقاومة للاحتلال ودفاعا عن الحق في الوجود والكرامة. فضلا عن أن هذه المقاومة تجد سندا واضحا لها ليس في الشرائع والديانات وحسب، بل وفي القانون الدولي المعاصر وميثاق الأمم المتحدة. وبالرغم من ذلك فقد أصر الغرب، وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، على رؤيته القاصرة للقضية التي تميزت بنظرة عنصرية مستهترة بكرامة الآخر وآدميته، وخاصة إذا كان هذا الآخر مسلما. وهو ما اختزلته مستشارة الأمن القومي الأمريكي غونداليزا رايس بقولها: لا يوجد إرهاب جيد وإرهاب سيئ. واضعة القضية برمتها في إطار الأفعال الإرهابية. وكذلك ما انتهى إليه قساوسة اليمين المسيحي المتطرف المقربون من البيت الأبيض: جيري فالويل وبات روبرتسون وفرانكلين غراهام، من أن الدين الإسلامي دين إرهابي ولكن لم الإصرار على تحريف القضية وعزلها عن أبعادها الحقيقية ؟! إن إطلالة بسيطة على التاريخ تبدو مفيدة في هذا السياق. فعدا عن الأسباب التي سبق ذكرها، ثمة عوامل تاريخية ترخي بظلالها على العقل الغربي وتدفعه إلى محاكمة الأمر بطريقة غير موضوعية وعدائية بنفس الوقت. ويتعلق الأمر ببقايا صراع تاريخي قديم بين المسلمين ودول أخرى عديدة في الغرب، صراع حركته في مراحله الأولى التنافسية الحادة التي دارت بين الدعاة المسلمين والمبشرين المسيحيين، والتي كان نشوؤها أمرا طبيعيا في ظل دينين عالميين يسعيان إلى دعوة الآخرين للخلاص باعتناق العقيدة الصحيحة كما يراها كل من الدعاة المسلمين والمبشرين المسيحيين. ثم حركت هذا الصراع في مرحلة تالية الحروب الصليبية التي حاول الغرب الأوربي من خلالها أن يستولي على بلاد المسلمين وأن يدخلهم في طاعته وسلطانه. وخلال هاتين المرحلتين غرس المستشرقون والساسة الغربيون في عقول أتباعهم وتلامذتهم صورة للإسلام بالغة النقص والسوء والسلبية، ركزوا فيها حملتهم الثقافية على بعض معالم العقيدة والثقافة الإسلامية، وعلى رأسها فكرة الجهاد، الذي رأوا فيه صورة من صور الإكراه والقسر وفرض الرأي على الآخر. وحين انحسر المد الإسلامي سياسيا وعسكريا عن أوروبا، وتحول التاريخ تحولا جذريا إلى الاتجاه المقابل، وبدأت الجيوش الأوروبية غزوها للغالبية العظمى من الدول العربية والإسلامية، كان طبيعيا أن تظهر حركات وطنية تحارب المستعمرين وتعمل على إجلائهم عن أراضيها. ولعب الإسلام دورا بارزا في تزويد تلك الحركات بحافز روحي عظيم الأثر تمثل في الطابع الديني الذي اكتسبته حركات تحرير عديدة في العالم العربي والإسلامي، مثل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بقيادة عبد الحميد بن باديس، وحزب الاستقلال المغربي بزعامة علال الفاسي، ودور جماعة الأخوان المسلمين في الثورات المصرية. وقد تزامن هذا الدور الذي لعبه الإسلام في تأجيج حركات المقاومة الوطنية للاستعمار مع دعوة أخرى للمحافظة على الاستقلال الثقافي وإذكاء الوعي بالخصوصية الثقافية للأمة. وهكذا بدا للعقل الأوروبي، وللوجدان الغربي بصفة عامة، أن المسلمين مصدر خطر على الحضارة الغربية كلها، ولذلك بقي العقل الغربي إلى يومنا هذا مستعدا لتصديق كل نقد يوجه للإسلام والمسلمين، وقبول كل تصوير سلبي لهما. المقاومة.. لماذا؟ قبل أن نمضي في تحليل وجهات النظر المختلفة حول هذا الموضوع علينا أن نسأل لماذا المقاومة. هل هي غاية بذاتها ؟ أم هي نوع من اللهو والترف يسلكها المقاوم لبلوغ السعادة المنشودة ؟ لا هذه ولا تلك، والشعوب العربية والإسلامية المقاومة إنما تسلك هذا الطريق الذي يكلفها الكثير من دماء أبنائها وأرواحهم دفعا للظلم التاريخي الواقع عليهم من الاستعمار وقوى التسلط ومحاولات الإفناء التي تمارسها هذه القوى ضد الشعوب العربية والإسلامية. كاتب إسرائيلي يصف الممارسات الصهيونية التي قامت بها العصابات الصهيونية في فلسطين فيقول: دمر الإسرائيليون 385 قرية من أصل 457 قرية عربية كانت موجودة في فلسطين المحتلة عام 1948، وإن التدمير الذي نفذ في هذه القرى ذهب بكل شيء فيها بما في ذلك المنازل والمباني العامة، وحتى المدافن . ويصف الكاتب أن المفاوضات والترتيبات التي شهدتها المنطقة في الآونة الأخيرة ليست حالة سلام، بل هي هدنة مؤقتة ومحاولة للسيطرة على الفلسطينيين بوسائل جديدة . مستشهدا بهذا الخصوص بحوار جرى بينه وبين رئيس الوزراء الصهيوني المقتول إسحاق رابين، والذي يقول فيه : لم يحضر والداي إلى فلسطين للاهتمام بشؤون هؤلاء الناس وحل مشاكلهم، فليحل الفلسطينيون مشاكلهم الحياتية بأنفسهم مادمنا نواصل السيطرة عليهم . مثال آخر، وكاتب أمريكي هذه المرة، يصف السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط فيقول: لقد ساهمت الولايات المتحدة بقتل عشرات الآلاف من الأطفال العراقيين، الذين لقوا حتفهم بنتيجة العقوبات التي تفرضها واشنطن. كما ساهمت واشنطن أيضا بقتل العشرات، بل المئات، بقنابلها حين غارت على المدن الليبية عام 1986، وأعداد مثلها في لبنان حين كانت السفينة نيوجرسي، ومن مدفعها ذي العيار 16 تدك القرى اللبنانية في جبل لبنان. والأهم من كل ذلك تقوم واشنطن بدعم إسرائيل، التي أدى استخدامها للعنف بشكل متكرر إلى حجم هائل من السكان اللاجئين، ومعاناة إنسانية هائلة . ويخلص الكاتب إلى حقيقة مهمة مفادها أن التاريخ يرشد إلى حقيقة أن الهيمنة في الشرق الأوسط، سواء من جانب الولايات المتحدة، أو من أي طرف تميل لأن تنتج المقاومة . مثال آخر يطرحه هذه المرة مفكر يهودي أمريكي يقول: إن حملة الكراهية الحالية في العالم العربي تحركها سياسات الولايات المتحدة نحو إسرائيل وفلسطين والعراق. وقد وفرت الولايات المتحدة الدعم الحاسم للاحتلال العسكري الإسرائيلي القاسي الذي هو الآن في عامه ال35 . المقصود احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة. ويضيف الكاتب: إن ضغوطات الولايات المتحدة من أجل استمرار العقوبات على العراق أدت إلى موت مئات الآلاف من العراقيين، وربما فاق عددهم عدد من قتلوا بما يسمى أسلحة الدمار الشامل عبر التاريخ، حسب قول المحللين العسكريين جون وكارل موللر في مجلة فورين أفيرز forign affairs عام 1999 . الإشكالية بعيون غربية كتب الباحث السياسي الأمريكي غرينفيل بايفورد في مجلة فورين أفيرز forign affairs عدد يوليوـ أغسطس، مقالا تحت عنوان الحرب الخاطئة وذلك حول موضوع الإرهاب والإشكالية التي يثيرها للولايات المتحدة والغرب. يعرف بايفورد الإرهاب نقلا عن قاموس أوكسفورد للغة الإنكليزية الذي يقول إن الإرهابي terrorist هو الذي يحاول تقرير إرادته عن طريق استخدام نظام إجبار الآخر من خلال الترهيب . ويرى بايفورد أن هذا التعريف مناسب كما هو، لكن عند التطبيق يصبح استخدامه مثيرا للمزيد من الإشكاليات، ذلك أن التعريف هنا يشبه تعريف طريقة الجمال . فالإرهاب هو، بحسب نظره، إرهاب هذا المرء أو ذاك. ويمضي بايفورد بعد التطرق إلى هذه الإشكالية واصفا تجسيداتها على الأرض، ومنتقدا بشكل غير مباشر ازدواجية المعايير الغربية، وزئبقيتها، وبالتالي عدم صلاحيتها كقواعد معيارية يتم على أساسها تحديد الصالح من السيئ. يقول بايفورد: إن حركات المقاومة التي أقامها المدنيون ضد ألمانيا النازية في عهد هتلر، كانت تنفذ عملياتها بشكل تجاوز قواعد الحرب المقبولة. وقد اعتبرهم الجيش النازي إرهابيين. لكن يضيف بايفورد نعتبر رجال مقاومة ضد النازية أبطالا الآن، وهم حقا أبطال ويقول: إذا كنا نعتبر عادة الذين يرتدون الثياب العسكرية النظامية جديرون بالإعجاب أمام الإرهابي، إلا أن هناك الكثير الذين نعجب بهم لم يكونوا في الجيش النظامي، وقاتلوا بشكل جيد، مثل الأفغان أثناء الحرب ضد السوفيات . وعلى الرغم من أن العمليات الانتحارية تثير التجهم والعبوس بشكل عام، إلا أن جميع الأبطال العسكريين تكون لديهم الرغبة بالموت ولا شك أن حقيقة تمسك معظم المقاتلين بالأمل بالبقاء أحياء تشير إلى واقع نفسي أكثر مما تشير إلى العلاقة الموجودة بين الأبطال، و الإرهابيين و الانتحاريين . ويقول بايفورد: إن هناك تصرفات يبدو من الصعوبة التسامح تجاهها مثل قتل الأسرى على سبيل المثال. ويرى أن منظمة القاعدة التي يعتبرها الغرب إرهابية ، لم تقم بقتل عدد كبير من الأسرى والسجناء، في حين أن حلفاء واشنطن في منظمة تحالف الشمال الأفغانية قتلوا الكثير من الأسرى والسجناء . وحول الموقف من قتل المدنيين يقول بايفورد: إن الولايات المتحدة دولة ديموقراطية يساهم مواطنوها في طريقة استخدام قواتها العسكرية ، فهل هم حقا أبرياء؟ ويضيف فلنعد إلى الحكمة التقليدية ونقبل مبدأ أن قتل المدنيين عمل خاطئ. لكن رغم ذلك يحدث، وهذا ما حدث مثلا للمواطنين الصرب في ظل حكم سلوبودان ميلوسوفيتش، فهؤلاء لهم الحق في القول إنهم أبرياء أكثر من حق المدنيين في أمريكا الديموقراطية، ومع ذلك تم قتل الكثير من هؤلاء بالقنابل الأمريكية قبل سنوات قليلة، لكن الطيارين الذين قاموا بإسقاط هذه القنابل ليسوا إرهابيين ولا بأي معنى ! بايفورد يخلص إلى نتيجة مهمة مفادها أن وضع خط فاصل يميز الإرهاب من غير الإرهاب يظل مسألة صعبة. كما أن العملية بحد ذاتها نسبية خاضعة لنظرة كل طرف، المبنية حكما على أساس مصالحه الذاتية . سؤال أخير لا بد وأنه يدور في ذهن كل مسلم وعربي: ترى ما الخيارات المتاحة أمامنا لدفع الظلم عنا، عدا خيار المقاومة؟ خيار السلام وقد رأينا إسرائيل شاحاك كيف صوره ؟! خيار انتظار العدالة! الذي أجاب عنه هادسون وتشومسكي ؟! أم خيار الحوار الذي هو ليس أكثر من حوار طرشان ؟! ربما تكون الإجابة على هذا السؤال حاليا برسم الغرب.