الشعر الحديث: غموض أم تعمية؟!

يبقى الغموض من مسلتزمات الشعر ومن أشيائه الجوهرية، هل هنالك شعر وليس في ثنايا الكلمات ما يوحي ويدل؟ هل هنالك شعر والخيال مقيد؟ فالغموض يلون الشعر ويغنيه بالرؤى والأطياف، وهو من طبيعة الشعر ومن طبيعة الفن نفسه. ومن حق الشاعر أن يحلق في سماء المعاني، لكن ليس من حقه أن يسرف في تداعي الصور المبهمة المستعصية تماما على الفهم إلى الحد الذي تصبح فيه القصيدة فاقدة وحدتها العضوية أو خالية من كل معنى. فالغموض شيء والتعمية شيء آخر، الغموض من الشعر ولكن التعمية مفسدة له، فمن أين أتت هذه التعمية؟ يقول الكاتب الدكتور عبد الرحمن محمد القعود ضمن كتاب: الإبهام في شعر الحداثة العوامل والمظاهر وآليات التأويل، الصادر في شهر ذي الحجة 1422هـ مارس 2002م عن سلسلة عالم المعرفة، ويحمل الرقم (279). يقول : في كثير من شعر الحداثة العربية المعاصرة تغيب الدلالة غيابا كاملا، سواء كان ذلك بسبب غياب الموضوع أو بسبب أشياء أخرى، لكن غياب الموضوع عن القصيدة هو فيما يبدو أبرز الأسباب التي تتسبب في غياب الدلالة عنها، إذ أن وضوح الموضوع أو الغرض الذي تتحدث عنه القصيدة هو الشفرة الرئيسة لتتبع المسارات الدلالية، وان زرعت بعض المتاريس التعبيرية التي تعوق مهمة القراءة والفهم. وعلى امتداد مسيرة الشعر العربي منذ العصر الجاهلي وحتى زمن الحداثة الشعرية العربية المعاصرة كان الموضوع أو الغرض الشعري حاضرا في القصيدة جنبا الى جنب مع شكلها، وكان حضورا واضحا متحددا في ذاته من ناحية، وحضورا يشكل سياقا تفهم أفكار القصيدة ومعانيها في ضوئه من ناحية أخرى، أي أن الحضور الموضوعي في القصيدة كان ينهض بوظيفتين مزدوجتين إحداهما ذاتية هي وضوح الفكرة العامة للقصيدة والأخرى سياقية هي تحديد مفردات المعنى في النص الشعري، ويمكن القول بعبارة أخرى هي أن هذا الحضور الموضوعي يعني في أحد وجوهه ملمحا من ملامح تماسك النص وتماسك عناصره اللغوية والدلالية أي يعني وضوحه، وهذا التماسك يعد أحد ملامح وضوحه وأسبابه ومؤشراته في الوقت نفسه. أما الأديب والشاعر (شوقي بغدادي) فيقول عن سبب الغموض في الشعر: يعود الغموض إلى عوامل عدة: أهمها الاغتراب والاستلاب والقطيعة بين البشر في المجتمعات الحديثة، حيث يزدحم الناس دون أن تنشأ بين الأفراد علاقات إنسانية حميمية، وحيث تغدو الصداقة مطلبا عزيز المنال، ونرى الأدب عامة يتحدث عن وحدة الإنسان بالمجتمعات الحديثة، هذه العوامل التي زادت من غربة الشاعر في مجتمعه وشعوره بالعزلة، وأنه غير مسموع، وغير مرغوب فيه دائما، دفعه إلى الإنطواء على ذاته أكثر فأكثر، حتى غدت كتاباته منولوجات خاصة جدا، وغامضة جدا، أشبه ماتكون بالهلوسات والهذيانات التي تتوالى على مخيلة إنسان وحيد وهو مستسلم لأحلام اليقظة يائس من التواصل مع أخوته البشر، هذه العوامل الأخيرة زادت من صعوبة فهم الشعر الحديث والتواصل معه، وصارت الشكوى منه تزداد أكثر فأكثر، حتى صار يتهم بأنه يتحول إلى ألغاز خاصة بالشاعر وحده، وكان طبيعيا جدا عندئذ أن تزداد القطيعة بين الجماهير الواسعة وبين الشعر الحديث إلا أقله طبعا . قارئ الغموض ولاشك أن النظرة الموضوعية للشعر الحديث تؤكد أن جاذبية الشعر، في انحسار مستمر منذ سنوات بعيدة، وأن فنونا جديدة أخذت تجذب انتباه الجمهور، إلى أن حصلت القطيعة لا التواصل بين الشعر الحديث والجمهور، ويعلل بعض من ابتعد عن قراءة الشعر الحديث هذه القطيعة بما في الشعر الحديث من غموض في المعنى. فقد يكون هاجس البحث عن الطريف والجديد هاجس طبيعي عند الشاعر، وكذلك الرغبة في الابتعاد عن المعنى المتداول، لكن الإيصال يصبح مشكلة معقدة ومضنية عندما يجد القارئ نفسه لا أمام الغموض الفني الذي يشف ولا يحجب، بل أمام الإبهام الذي يسمح بالظن بأن الشاعر ليس مالكا تماما عنان أخيلته. فالقارئ الذي يقرأ شعرا غامضا، عليه أن يجهد نفسه كي يكشف مغازي الشعر ومقاصده، وأن يغوص في أعماق الشاعر، فربما أسرف هذا الأخير في الخيال، لكن ثمة قرائن لا يجوز إهمال دلالاتها. إذ أنه عندما ينقطع الاتصال بين القارئ والشاعر انقطاعا كاملا ويتكرر ذلك مرارا من حق القارئ عندها أن يشتبه بأنه أمام عجز فني وضعف في ملكة الشعر. ولكن يرى معظم الشعراء أن عامة الناس هم ليسوا بقراء شعر من طراز رفيع، فهم يمرون مرور الكرام أمام الأبيات الشعرية، فنحن نحيا في عصر السرعة والشعر ليس من أولويات عامة الناس، ويقول الشاعر ممدوح عدوان: إنه لا يخفى على أحد الفرق بين قارئ الشعر، وذاك الذي يمر بأبيات الشعر لماما، وعلى الأغلب وبسبب تدني عدد القراء للأدب بصورة عامة بالتالي تدني عدد قراء الشعر، فإن عامة الناس هم ليسوا بقراء شعر وإنما ضيوف نزلاء، يمرون مرور الكرام، دون بذل الجهد لفهم المقصود، فالكل يعلم أن المتنبي شاعر عربي كبير لكن القلة القليلة من تحفظ شعره وتفهمه. ويتوافق مع الشاعر عدوا ن الناقد حنا عبود إذ يقول: إن الجمهور يجد الشعر غامضا لبعده ليس عن سماع الشعر وقراءته فقط ، بل أيضا عن مجمل الإنتاج الأدبي، ففي السابق كان أبطال الجيل الشاب هم الكتاب العظام من مبدعي الأدب العالمي، أما جيل اليوم فأبطاله لاعبو كرة القدم، ويسعون لمعرفة طريقة إعداد صنف جديد من الحلوى، ويضيف: بالتأكيد هذه ثقافة قد نسميها ثقافة مسطحة، لكنها حتما ليست ثقافة أدبية؟ ولذلك يعد الشعر بالنسبة للكثيرين غامضا ومبهما. كاتب الغموض يقول الشاعر إبراهيم اليوسف عن مفهومه للغموض في تجربته الشعرية عموما، إذا كنت ضد المباشرة والوضوح المسرف في الشعر، فإنني أيضا ضد التعمية، والاستغلاق، والهذيان، وقصيدة الكمبيوتر، والسريلة الببغاوية، فالانزياح في الشعر، يمنح المفردة طاقات هائلة، ويغني القصيدة، ونحن نعلم تماما أن الشعراء منذ بداية وعي البشرية يسعون إلى الكتابة بلغة مختلفة عن اللغة السائدة بأي حال. وقد يأتي الغموض في قصيدتي من استخدامي للرموز، إذ أنني منذ مرحلة مبكرة من تجربتي حاولت أن تكون هذه الرموز مأخوذة من طبيعة رؤاي. وخصوصيتي، إذ أنني لا أميل إلى استخدام: (الليل، الصبح، النهر، المطر ) على طريقة الشعراء السابقين، بل بدأت أؤسس لابتكار رموزي، ما دامت معاناتي الكبيرة لها خصوصيتها، وما دام الإرث الذي اعتمد عليه، وأنهل منه، يسمح لي ببعض من الجهد والمثابرة ــ ان أهيئ لذاتي موطئ قدم، وان كنت اعترف بالقول: ما أصعب أن يجد المرء لذاته موطئ قدم في عالم الإبداع..؟! ولكن يلجأ بعض الذين يكتبون الشعر إلى غموض الشعر كهذا من أجل الإفلات من الحكم النقدي، فالشاعر يكتب شيئا غير قابل للفهم، ويدعمه بوهم العمق والفرادة، والتفرد، والتطور، والتجديد إلى ما هنالك. ويعتمد هؤلاء في دفاعهم عن شعرهم - أحيانا - على ما جاء في تراثنا الشعري في الصراع بين القديم والجديد، ويعتمدون أيضا على فكرة التأثر بالغرب ، معتمدين بالدرجة الأولى على التقليد، لا على الفهم والإضافة والتجاوز. قد أعطت صفة الغموض تبريرا للكثير من الشعر الرديء المصطنع المنغلق الذي لاتجمعه فكرة منسجمة، ووقع في إغراء السهولة وطرح جانبا كل الضوابط والقوانين والأصول، ولم يخلق ما يحل محلها. وقد أخذ الشاعر ينعت القارئ بعدم الفهم وبالجهل وبالحداثة والتجاوز ويقول بأن مهماته كشاعر جديد أن يخلق القارئ الجديد أيضا. ويؤكد ذلك الشاعر لقمان ديركي بالقول: الكارثة أن الشعراء الذين يكتبون هذا الهذيان يستخدمون الجملة التي قالها الشاعر أبو تمام لماذا لا تفهم ما يقال؟ ويطلبون من القارئ أن يفهم كلام الشاعر وما يرمز إليه، وهذا باعتقادي هو ضعف في الشعر المكتوب، وليس في فهم القارئ، مع الأسف ما يكتب ما هو إلا كتابات مستسهلة للكتابة، ومستغفلة للقارئ، لأنها تحكم مسبقا أنه لا يفهم الشعر، أنا من أنصار الشعر المفهوم، ومع الحالة الواضحة، وبالنسبة لي الشعر في أكثر حالاته غموضا لابد أن يكون مفهوما، والغموض ماهو إلا حالة من السحر تحيط بقارئ النص الشعري فقط، أما أن نقرأ قصيدة بأكملها لا نفهم منها شيئا، فهذا أمر مرفوض، وبعيد كل البعد عن الفن الشعري، هنا يحق لنا الاستفهام فيما إذا كان الشاعر ذاته يفهم القصيدة التي كتبها؟ هل كان في حالة من الوعي الكامل أثناء كتابته للقصيدة أم في حالة من الهذيان والتشتت الفكري، لست مع هكذا تجارب شعرية، بل مع الشعر الذي يخاطب حساسية القارئ بشكل مباشر، ولا يعتمد على اللغة، بل يتكئ على موضوعات الشعر الأساسية، والتي هي موضوعات حسية وروحية . رديء وليس غامضا ومع كل ذلك نلحظ ازدياد الكتب الشعرية وتكاثرها بأعداد هائلة منها الكتب الصغيرة منها والمتوسطة والكبيرة، كتب مستسهله لكتابة الشعر، وينوه الشاعر والكاتب (ممدوح عدوان) أن هذا الكم الهائل الموجود في الأسواق ليس شعرا غامضا بقدر ما هو شعر رديء، وقد ساعدت التقنيات الحديثة في سهولة نشره، وبالتالي تشكله كظاهرة، إذ قال :هناك كم من الشعر الرديء، لكنه ليس بالضرورة هو الشعر الحقيقي، ونحن نعيش وسط ظاهرة طغيان الشعر الرديء بسبب توافر وسائل الإعلام التي تريد أن تغطي مساحة ثقافية خجلا، ولدينا محررون ثقافيون جهلة ينشرون ما يحلو لهم، إضافة إلى ازدياد إمكانية الطباعة والنشر، فتجد معظم هؤلاء الشعراء يطبعون مجموعاتهم الشعرية على حسابهم الخاص، ويتكاثرون ليصبحوا أكثر من 10 آلاف شاعر في بلد معين، ولديهم مجموعات شعرية في المكتبات العامة، ولكن فعليا، قد لايكون من بينهم سوى ثلاثة شعراء حقيقيين، وهذا أمر طبيعي، ففي عصر المتنبي كان هنالك شعراء كثر، لكن لم يخلد سوى اسم المتنبي لعظمة شعره، فالشعر الرديء موجود في العالم كله، وفي مراحل التاريخ المتعددة . دور النقد ولما كان النقد هو الموجه والمرشد للحركة الشعرية، لذلك فإن وجوده مهم وأساسي للجمهور وللشاعر على حد سواء، ولكن الواقع يدل على غياب النقد ليقتصر على بعض المقالات النقدية التي تنشر عبر صفحات الجرائد مما عمق الإحساس بغموض ما يكتبه الشاعر، دون وجود من يحلل أو يكون صلة وصل بين المبدع والجمهور، وبالتالي الحالة الشعرية في كثير من الأحيان لم تعد مفهومة وواضحة إلا للقلة. ويرى (ممدوح عدوان) أن عامة الناس لا تقرأ الشعر أصلا، فهي حتما لن تتابع المقالات النقدية الشعرية التي تنشر في الجرائد اليومية، لا بل هم يستبعدون تماما المطبوعات المتخصصة التي توضح الشعر وتفسره، فهو غير معني بالأمر، فبعضهم يمسك الجريدة ليقرأ خبرا سياسيا، وبعضهم يقرأ الإعلان عن سلعة ما، وبعضهم يحل الكلمات المتقاطعة، أما أحوال الثقافة وما فيها من نقد لم تعد تقرأ .