إن خلص الفول أنا مش مسؤول!

في أعقاب كل طبق فول كنت ألتهمه في مطعم جاد أو التابعي أو موزاييك أو غيره من مطاعم الفول والفلافل التي لا يخلو شارع في القاهرة منها، كان يلح علي سؤال غريب بعض الشيء يدور حول السبب الذي جعل بعضهم يربط بيننا نحن أبناء أرض الكنانة وبين الفول... خصوصا أنني أعرف أن هذه الوجبة صارت من الأكلات المفضلة ـ إن لم نقل الإجبارية ـ لدى كثير من أبناء أمتنا العربية، ومن هم على شاكلتهم من الشعوب النامية! لكنني ـ وأصدقكم القول ـ كنت أقنع نفسي أحيانا بأن الربط التعسفي بين الفول وبين أهل مصر له ما يبرره، فتلك حقيقة لا تقبل الشك، وبإمكانك أن تعيشها وتلمسها مباشرة إذا قادتك قدماك إلى أي من المدن أو القرى المصرية، فعندها سوف تطرق أذنيك بالتأكيد صيحات باعة الفول ونداءاتهم ذات الطابع الخاص التي يتخللها الكثير من الطرافة وروح الدعابة من قبيل: إن خلص الفول أنا مش مسؤول أو تعالى بص لتخس النص أو الحق نصيبك يابو العيال والفول اللوز، وغيرها من النداءات التي يتفنن باعة الفول في ابتكارها، ربما بدرجة حرصهم نفسها على ابتكار أنواع جديدة من الأكلات الفولية! تعددت الأصناف والفول واحد! وفي مدينة عامرة مثل القاهرة لا تتوقع أن تجد شارعا من شوارعها أو حارة من حاراتها التي لا يحصى عددها من دون أن يحتل محل فول أو أكثر أحد معالمها الرئيسة. وبإمكانك أن تكتشف ذلك بسهولة شديدة فقط من خلال قدرة الفول ذات الشكل المميز التي يفوح من فوهتها الضيقة رائحة مميزة يسيل له لعاب محبي الفول وعشاقه!. ورغم اعتماد هذه المحال جميعا على الفول كعنصر أساسي، ووحيد أحيانا، في إعداد أطباقها، إلا أن المؤكد أن كل محل منها يحاول بشتى السبل أن تكون لأطباقه من الفول مذاقها الخاص وشكلها وطعمها وأحيانا لونها الذي يميزه عن غيره من المحال الأخرى المنافسة. غير أن ذلك لا يتأتى بطبيعة الحال سوى بعمل خلطة سرية خاصة وجديدة تدخل فيها مواد غذائية غير معروفة للآخرين، بحيث تكسب هذا المحل أو ذاك السمعة والصيت بين سكان المنطقة والمناطق التي تجاورها! فإذا كان صاحب محل الفول ذا طموح كبير أو تطلعات برجوازية! فإنه يسعى إلى تجاوز الرقعة الجغرافية التي يقع فيها محله إلى محاولة اجتذاب زبائن من الأحياء المجاورة، وهو ما نجح فيه بعضهم بالفعل، ومن بينها جاد والتابعي وأبو شقرا والجحش والمشربية وغيرها الكثير من سلاسل المطاعم التي يصعب حصرها والتي تعدت سمعة بعضها حدود الأراضي المصرية، فافتتحت فروعا لها في العديد من العواصم العربية والعالمية، وهو ما أدخل طبق الفول عصر العولمة من أوسع أبوابه، رغم أن أصحابها ربما لم يسمعوا بهذه الكلمة مرة واحدة في حياتهم ولا يعرفون مقاصدها ولا مراميها! فول من كل صنف ولون! يستطيع كثير من المصريين حتى وإن لم يكن بينه وبين الفول إلا النسب التغذوي أن يعددوا الكثير من أنواع الأكلات الفولية، بداية من الفول بصلصة الطماطم، مرورا بالفول المطمور، والفول بالزبدة، وطاجن الفول بالبيض، وطاجن الفول بالخضراوات، والفول بالطحينة والباذنجان. وفي هذا المقام لا ننسى بالطبع ما يتصل بالفول من أصناف لا تقل شهرة ولا شعبية عن شقيقاتها الآنفات الذكر، إن لم تفقها أحيانا، ويأتي على رأس ذلك الفول النابت المقلي والبصارة. أما أفضل هذه الأصناف جميعا ولا ريب، وأكثرها إقبالا من جانب محبي الفول ـ بالنسبة لي على الأقل ـ فهو طبق الفول المدمس الذائع الصيت الذي تعدت شهرته الآفاق، وأصبح يطلبه القاصي والداني بما في ذلك أفواج السياح الأجانب ورجال الأعمال الكبار الذين أصبحوا لا يتحرجون في طلب طبق فول مدمس لإفطارهم! وربما هذا ما شجع الكثير من أشهر الفنادق المصرية بمختلف مستوياتها ونجومها وأقمارها على إدخال طبق الفول ضمن قائمة أطعمتها، وعمد بعضها إلى استقطاب أشهر الفوالين في المدينة ومنحهم الكثير من الامتيازات والإمكانات التي جعلت بعضهم ينجح فعلا في ابتكار وجبات جديدة شهية من الفول. وقد أتيح لي بالفعل تذوق وجبة فول بأحد الفنادق الفاخرة بالقاهرة. وبعد أن استمتعت بمذاقها الرائع ذهبت إلى الفوال أو الشيف كما يحب أن يناديه الآخرون في وضعه الجديد، وأبديت له إعجابي بطريقته المميزة في إعداد الفول، لكنني عندما سألته عن سر هذه الطريقة تهرب مني واكتفى بأن ذكر لي اسمها وهو الفول أبو رية! فول في كل مكان! ولأن الحديث عن هذه الأكلة المصرية الأصيلة لا يكتمل من دون أن نسلط الضوء على فنون إعدادها وبيعها وشرائها وطقوس تناولها وأسرارها، نوضح أن نشاط معظم مطاعم الفول في جميع ربوع مصر يبدأ عقب الانتهاء من صلاة الفجر مباشرة. فإذا كنت تعيش في أي من القرى أو المدن المصرية، فسوف تلاحظ من أول وهلة أنه بمجرد بزوغ أشعة الشمس، أناسا غادين أو رائحين وكل منهم يحمل بإحدى يديه طبقا مليئا بالفول وفي اليد الأخرى قرطاس الفلافل الساخنة ذات الرائحة المميزة، ولا يخلو الأمر بطبيعة الحال من بعض أرغفة الخبز المصري الساخنة التي لا تحلو أكلة الفول دونها! أما إذا شاهدك أحد حاملي هذه الأطباق، واكتشف أنك لست من أبناء الحتة، وهو التعبير الشعبي الدارج الذي يطلق على الغرباء، فسوف يلح عليك في أن تشاركه إفطاره المكون من طبق الفول والفلافل والخبز، مع حبات البصل الأخضر التي أثبتت قدرة فائقة على فتح الشهية! وإذا تركنا الأحياء الشعبية جانبا باعتبارها المعقل الأساسي للفول في مصر، وانتقلنا إلى ما يجاورها من الأحياء الراقية مثل الزمالك أو مدينة نصر أو العجوزة أو مصر الجديدة ، فسوف تكتشف أن الأمر لا يختلف كثيرا، اللهم سوى في اعتناء مطاعم الفول بتلك الأحياء بالنظافة والمظهر الحسن بشكل أكبر، حتى تتلاءم مع طبيعة سكانها ومستواهم الاقتصادي والاجتماعي، ورغم كل ذلك فإن الحقيقة المؤكدة أن طبق الفول هنا لا يختلف بأي حال عن زميله الفول الشعبي، بل ربما كان العاملون بالمطاعم الشعبية أكثر دراية وحنكة في ابتكار أطباق معينة من الفول تفوق سواها في المناطق الراقية! طبخ الفول.. فنون! والآن، دعونا نختتم جولتنا الفولية هذه بذكر بعض أسرار إعداد الفول. الحقيقة أنني عندما سألت أحد الفوالين المخضرمين الذين أعرفهم جيدا حول ذلك، تمنع في البداية قليلا، إلا أنه استجاب لإلحاحي المعهود قائلا: إن هناك طريقة شائعة تعتمد على تنظيف الفول جيدا من الشوائب وخلافه، بعدها يتم نقعه في الماء لمدة 12 ساعة على الأقل، ومن ثم يوضع في القدر المخصص للطهي، مع إضافة كمية معينة من الماء والصودا والعدس... نعم العدس نفسه! وأخيرا يوضع فوق الموقد لعدد معين من الساعات التي قد تتجاوز العشرة، حيث تتحول حبات الفول بعدها إلى اللون الأحمر الوردي وتأخذ رائحته المميزة في النفاذ من فوهة القدر، وعندها يصبح جاهزا للأكل.. قلت له متسائلا: ما دامت طريقة الإعداد بهذه البساطة، فما السر في اختلاف مذاقه وشكله من فوال إلى آخر؟ فأجابني قائلا: رغم أن هذا من أسرار مهنتنا، إلا أنني، ومن أجل المعزة الخاصة، سأخبرك بطريقة مجربة أثبتت جدواها الأكيدة في صنع طبق فول على أفضل ما يكون، ثم صمت قليلا ومضى قائلا: إن هذه الطريقة تعتمد على تخزين حبات الفول لفترة زمنية محددة يعرفها المخضرمون في المهنة داخل غرف محكمة الإغلاق أسفل الأرض معدة خصيصا لهذا الغرض، بعدها يستخرج الفول وينظف جيدا ثم يوضع في قدور محكمة الإغلاق فوق النار إلى أن ينضج بالكامل، حيث يكتسب عندها مذاقا خاصا لا يوصف.