بلاستوسين حمية العصر الحجري!!

لا يكاد يمر يوم دون أن تنشر هذه المطبوعة أو تلك مقالة تحث على اتباع حميات غذائية تزعم أنها جديدة وفريدة وجديرة بالاتباع! وآخر ما تفتقت عنه عبقريات الفبركة الطبية تلك التقليعة التي ظهرت في الولايات المتحدة تحت اسم (حمية بلاستوسين) التي تدعو إلى العودة ليس إلى الطبيعة فقط بل إلى العصر الحجري تحت زعم أن ذلك هو الحل الكفيل بعمر مديد وصحة حديد للإنسان الذي أغوته معطيات الحضارة المعاصرة فأمعن في إيذاء صحته بما يتعاطاه من مأكولات متنوعة لم تراود مخيلة الإنسان البدائي! تقوم حمية بلاستوسين على اعتماد لحوم الصيد كمورد غذائي أساسي للبقاء على قيد الحياة وقد يبدو الأمر عند هذا الحد مغريا، ولكن الولوج في تفاصيله ينذر بما هو أسوأ. سر بقاء الإنسان الأول! ما من شك أن ما كان يأكله أسلافنا الأوائل كان مصدرا مهما لاستمرارهم على قيد الحياة، وكان متناسبا تماما مع طبيعة حياتهم المعتمدة على القوة الجسدية لضمان البقاء، سواء لناحية ما ضمنته هذه القوة من حماية ذاتية له، أو ما ساعدته في توفير مصادر الغذاء وبخاصة لحوم الحيوانات أو الطيور التي يصطادها. والجدل الدائر الآن في أوساط باحثي علم الإنسان يتمحور حول ما إذا كان تناول اللحوم هو الذي ضمن لما يعرف بالإنسان الأول البقاء وبالتالي تطوره السريع. وما تمخضت عنه أبحاث هؤلاء تشير إلى أن سر بقاء الإنسان الأول لم يكن معتمدا على بروتين اللحوم فحسب، بل على البروتين الموجود في النمل الأبيض الذي كان يعتبر وجبة شهية لأجدادنا الأوائل كما يزعم الزاعمون! وتصل الدعوة في إطار هذه الحمية إلى عدم طهي الخضراوات واللحوم، دون أن يتنبه هؤلاء الدعاة إلى أن الإنسان الأول اعتمد كثيرا على النار، في تذليل صعابه وطهي طعامه، الأمر الذي يتنافى مع حقيقة الوضع الذي ساد في تلك العصور الغابرة. وقد يكون من المثير المدهش أن تدعو حمية بلاستوسين إلى عدم أكل الفاصوليا المطبوخة وعدم أكل الجزر والبطاطا لأنه تم تدجينهما، وكأن الإنسان الأول لم يعتمد على جذور النباتات وجذوعها حينما كان يبحث عن موارد غذائية. طبيعة مختلفة! لعل أكثر الكتب التي أثبتت خطأ هذا النوع من الحميات، كتاب صدر في الولايات المتحدة مؤخرا بعنوان (الحمية الغذائية الأصلية) Original Food Diet لمؤلفته اختصاصية التغذية إليزابيث سومر Elizabeth Sommer التي تتعامل مع العودة إلى الطبيعة بشكل مختلف تماما عن حمية بلاستوسين اعتمادا على معطيات معاصرة تأخذ بعين الاعتبار الحاجة الماسة إلى خفض نسب الدهون والدسم في كثير من غذائنا. تؤكد الاختصاصية سومر أن الإنسان لا يحتاج أكثر من 20? من السعرات الحرارية التي توفرها الأصناف العديدة من مأكولات هذا العصر ،خصوصا البروتينية، إذا ما كان الهدف هو الحياة بصحة قوية كتلك التي كان يعيش بها أجدادنا، وهي ترى أن نزع الدسم والدهون من مشتقات الحليب والألبان لا ينزع فائدتها لأنه من الممكن توفير الكالسيوم من مصادر أخرى كان الإنسان الأول أبرع في اكتشافها قبل 40 ألف سنة. وتشير سومر إلى أن الحبوب والدقيق مصادر غنية من مصادر الغذاء شرط ألا يتم أي تغيير في مكوناتها وشكلها الأساسي. وتبدو حمية سومر الغذائية هي الأكثر منطقية في زحمة الحميات المقترحة التي ينثرها اختصاصيو التغذية المعاصرون بين الفينة والأخرى، وهي قائمة ببساطة على نبذ المواد الغذائية المشبعة بالدهون والإكثار من المواد الغذائية المحتوية على مركبات الكربوهيدرات. وتركز سومر في كتابها على أهمية تناول الفواكه والخضراوات الطازجة، ولا تتورع أن تنصح قراءها بتناول عشر وجبات منها وليس ثلاث وجبات كما هو سائد عادة، وإلى جانبها تحث سومر على اعتماد البقوليات واللحوم الخالية من الدهون والسمك والدجاج المسلوخ كمصادر مهمة لهذه الحمية. في هذه الأثناء تشهد بريطانيا عودة ملموسة إلى المنتجات الطبيعية، وهو ما أنعش سوق المواد العشبية والخضراوات والفواكه. وقد أشارت إحصائية حديثة إلى أن سوق المواد الطبيعية بدأت ازدهارها في عام 1997 بمجموعة محدودة من الأصناف لكنها الآن غنية بما يفوق الألف صنف التي تلقى إقبالا مدهشا من الناس.