حوار الأجيال حول الخـبــز

جيل (1) كانت المخابز في البيوت، وكان الناس يعيرون ذلك الشاذ الذي يشتري الخبز من الخباز، لأن بيتا فيه امرأة محنكة لايمكن أن يرهن أمنه الخبزي في يد أي قوة أجنبية أو شقيقة، فضلا عن خباز لا يبيع إلا للعزاب وعابري السبيل. كان رغيف الخبز لذيذا وطازجا، كما كان نوع القمح المستخدم مؤشرا جيدا للمكانة الاجتماعية لأسر المدينة.. كنا في قمة الهرم.. نعم لأننا كنا لا نأكل إلا البر، وخبز البر يا هذا ليس كخبز الشعير أو خبز الفرنجة الذي استورد في بعض البلدان المجاورة وقت الحرب العالمية، أو ذلك الخبز المصنوع من القمح الرخيص والمضاف إليه السمن، وهو رائج في المدينتين المقدستين: مكة والمدينة يصنعه القادمون من بخارى وبلاد الأفغان وينعتونه بالتميس! جيل (2) كان البر طعام الأكابر.. لكن الأكابر والأصاغر اليوم مفتونون بأنواع من الخبز لم يعهدوها... ومنذ قدوم المصنع الأتوماتيكي والناس لا حديث لديهم سوى الصامولي، والصامولي كما حكى لي أبو العبد - صاحب المخبز - هو تحوير للخبز الفرنسي الذي يصعب صنعه ويغلو ثمنه في هذه البلاد، لذا فإن أبو العبد يقول إن الفرنسي غال ولا يشتريه إلا أولئك الذين جربوه خلال سفرهم إلى لبنان...، ولاشك أننا كنا أيام الطفرة المأسوف على شبابها نبحث عن صامولي أو خبز عربي أو مفرود، لأن الأسواق خلت من العرض في ظل ارتفاع الطلب.. وكان أول ضحايا الهجمة الخبزية قرصا يقال له البر. جيل (3) إذا كان عصر الجيل الوسيط قد افتتن بأي أمر أتوماتيكي، فإن جيلنا قد افتتن بكل نشاط له علاقة إلكترونية، وما ميز العصر الإلكتروني هو إعادة اكتشاف العادات والنشاطات والفوائد الهائلة لآلاف من المفردات التي طوعها الإنسان.. ومنها غذاؤه ثم نشر هذه المعلومات على أوسع نطاق... ولعل خبز البر كان أحد الاكتشافات الجديدة القديمة، حتى أصبح تناول خبز البر الأسمر دليلا على التحضر والثقافة والاهتمام بالصحة والوقاية من أمراض العصر، وعلى رأسها السرطان الذي يمكن لخبز البر أن يعمل جنديا صامتا في مقاومة أحد أنواعه وهو سرطان القولون. مع هجمة عشرات أنواع الخبز في بلداننا هل نملك الشجاعة الكافية لبناء مخبز الأسرة ليعطينا قرص خبز أسمر يعيد إلى بيوتنا كثيرا من النظافة والطعم الطازج الذي ذهبت به ثقافة التعليب!