القهوة.. مشروب الذكاء من مخا إلى موكا

اكتشفت القهوة من قبل العرب، وهي أقل ما وهبوه للحضارة والمدنية، وشجرة القهوة أو البن كما نسميها ليست أصيلة في جنوب الجزيرة العربية، بل نقلت إلى اليمن من بلاد الحبشة، حيث انتشرت من عهد ممعن في القدم كأشجار برية، وحاول بعض العلماء أن يعزوا اكتشاف القهوة إلى أبناء القارة الأفريقية ولكنهم نسوا أن اسمها مأخوذ من اسم قريةكفا التي زرعت فيها، ولا يوجد ما يدل على أنها صدرت من تلك القرية قبل القرن الخامس عشر، كما لا توجد في اللغة الحبشية أو لغات الأقطار المجاورة كلمة تشابه كلمة قهوة أو كلمةبن التي أطلقها العرب على حبوبها، وقيل إنه من المحتمل أن تكون شجرة البن نقلت من الحبشة إلى بلاد العرب في أثناء غزو الأحباش لليمن، لكن لا توجد دلالة لتأييد هذا القول. فلنكتف إذن بالقصة التي رواها العرب عن الطريقة التي عرفوا بها القهوة، وكيف صاروا يتناولونها. زعموا أن راعيا لقطيع من الماعز شاهد عنزاته تلتهم أوراقا وحبوبا من شجيرات ما لبثت بعدها أن أخذت تقفز وتتراكض باستمرار على غير عادتها، فمضى إلى تلك الشجيرات وقطف حبات منها ومضغها وابتلعها فأصبح عظيم النشاط يشارك عنزاته قفزاتها وركضها، وكان أحد الشيوخ العلماء يراقب هذا المنظر الغريب، فجمع حبات وأزال قشرها عنها وأكلها، فعرف مميزات القهوة وأعلن اكتشافه هذا في كل مكان فيه، إلا أن هذا العالم أراد أن ينسب اكتشافه إلى مصدر تاريخي أهم من عنزات وراع. عزي الفضل في تعريف الناس بالقهوة إلى أشخاص عدة اختلفوا في طرائق إعدادها وتناولها، أشهرهم أبوالحسن على ابن عمر الشاذلي المتوفى عام 821هـ، المصادف 1418م. ويقول المؤرخ (حاجي) إن هناك اثنين يحملان هذا الاسم: الأول مؤسس الطريقة الشاذلية، والثاني تلميذه مكتشف القهوة في مخا، وحسب روايته أن أبا الحسن كان يسير في جنازة أستاذه فخيل إليه أنه يأمره بأن يلقي كرة من الخشب سبق أن أعطاه إياها، وأن يقيم بحيث تستقر الكرة الخشب، ففعل ذلك وظلت الكرة تهوي حتى استقرت في مخا، وهناك أقام حتى سخط عليه ملك تلك المقاطعة فنفاه مع أتباعه، وصار الجميع يقتاتون بحبوب البن، وشفي زوارهم من مرض الحكاك المنتشر في تلك البقاع فأصدر الملك عفوا عنهم فأصبحت مخا مركزا عظيما لزراعة شجرة البن. وقد عرف النوع العربي من البن واشتهر في أرجاء العالم باسم(مكا)، وأدى الخطأ في نسبة اكتشاف القهوة إلى علي بن عمر- وهو واضع الطريقة الشاذلية- إلى الاعتقاد بأن الاثنين شخص واحد، مما جعل فريقا من الناس يطلقون أحيانا- مثل أهل الجزائر- اسم الشاذلي على القهوة. وحوالي نهاية القرن العاشر الهجري بدأ شربها بعد غلي قشور حبوب البن بعد أن كانت تؤكل كالفاكهة وشاعت بين جميع طبقات المجتمع، وظهر المقهى على الأثر في البلاد العربية، وأثار انتقادات المحافظين الذين عارضوا فتح هذه المحال واستعمال القهوة. وما لبثت أن استردت مكانتها بعد عزل ذلك المدير بسبب تجاوزه صلاحياته. ولما حج السلطان عام 950هـ عجز عن إرهاب محبيها فلم يقلعوا عن شربها في أثناء إقامته في الحجاز، ووصف ابن الحجار عرسا حضره تلك السنة وقدمت فيه القهوة، وكيف وقف رجال منددين بهذا الشراب المخالف للدين، فتبع ذلك نقاش عنيف وانتقد الكاتب بكل شدة الطرائق التي استخدمت لمقاومة هذا الشراب، ولم يقف الاضطهاد عند هذا الحد، إذ مات كثيرون قتلى أو في السجون لشدة العذاب في سبيل القهوة التي نشربها اليوم بسهولة شرب الماء. ورغم ذلك انتشرت في مختلف الأقطار، إذ كان الحجاج يحملونها في أثناء عودتهم من الديار المقدسة إلى كل ناحية في العالم الإسلامي.وافتتح حلبي ودمشقي أول مقهى في استانبول وتبعهما آخرون، فكثر عدد المقاهي أو ما يسمىقهوة خانه وصار يتردد عليها الموظفون ورجال الأعمال والشعراء والكتاب وطلاب الراحة. ومالبث أن أطلق عليها اسم مكتب العرفان. وحوربت القهوة في تركيا كما منعت في الدول العربية، فمنع بيعها وشربها في عهد السلطان مراد الرابع1032- 1049هـ، إذ أصدر قانونا بتحريمها ومات في سبيلها بعض الناس. فلما تولى السلطان سليمان العرش أباحها واستردت مكانتها رغم الضرائب الفادحة التي فرضت عليها. انتشرت بعد ذلك في جميع العالم كالبرازيل وجزر الهند الشرقية، وهاييتي والدومينيكان، وكوبا وغيرها، ففي ألمانيا اعتقد السكان أن القهوة تسبب عقم النساء ولذلك عارضوا السماح للنساء بشربها، ولكن هذه المعارضة توقفت بعد ظهور مقطوعة باخ الخالدةنشيد القهوة التي تدور حول شاب عشق فتاة وخطبها واشترط عليها ألا تشرب القهوة فرفضت زواجه إلا إذا قطع على نفسه عهدا بمنحها الحرية المطلقة في احتساء القهوة كلما شاءت. وللقهوة في المضايف العربية تقاليد خاصة لشربها. فأدواتها تتألف من: 1- الكمكم:أكبر دلال القهوة حجما، يوضع فيه طحين القهوة المسحوق مع الماء. 2-التنوة: يوضع فيها بقايا الطحين السائل بعد الفوران. 3-المصب: يوضع فيه شراب القهوة جاهزا وهو يختلف اختلافا واضحا، وهذا يتوقف على حجم الزوار. 4- التلحيتة:يوضع فيها البثل المتبقي. 5- الطاوة والخاشوكةمحماس وكذلك ماشة النار. أما عاداتها في الديوان فهي تلفظ(كهوة)، ويشرف عليها أحد الرجال المقربين إلى صاحب الديوان، فيعهد إليه القيام بإعدادها باستمرار وتقديمها إلى الضيوف، ويحترم الكهوجي احتراما فائقا، لأنه يمثل صاحب الديوان المباشر في علاقاته مع الناس داخل الديوان. والكهوجي له الحق في الأمر والنهي، وما يتقاضاه صاحب القهوة يأتي من حصة مفروضة على رجال العشيرة، وما يحصل عليه من الوافدين من الوجهاء وقت المناسبات كالأعياد والأفراح. ومن الصفات التي يتمتع بها الكهوجي هي ثقافته الغزيرة ومعرفته بأنساب العشائر واطلاعه التام على أمور الحياة. كل هذا ينتج من حضوره المستمر في الديوان وحضوره الندوات المستمرة التي تعقد فيه. وأول من يدخل إلى الديوان في المناسبات هو الكهوجي، وخصوصا في الأعياد، حيث يجلس قرب الوجاغ ويضع صينية صغيرة لجمع ما يحصل عليه من الوافدين للتهنئة بالعيد. ويشترط الكهوجي أن يحمل دلة الكهوة( المصب) بيده اليسرى ويعطي الفنجان باليد اليمنى، وما على الضيف إلا أن يأخذ باليد اليمنى، وإذا قدم الضيف يسراه فإن الكهوجي يمتنع عن تقديم الكهوة له. وكم من مرة وقع أهالي المدن في مأزق حرج لجهلهم عادات الديوان، وإذا سكب الكهوجي الكهوة في الفنجان وجب عليه دق الفنجان في مقدمة المصب، وهذه حالة مألوفة حتى للذين يبيعونها في الأسواق، وإذا شرب أحدهم القهوة وقلب الفنجان على الأرض أو قدمه مقلوبا، فإن هذا يعني صغر قيمة الكهوجي، ويحدث ما لا يحمد عقباه، وقيل عن الكهوجي: كل معزب خسران.. إلا معزب الكهوة ربحان. وفي حالات كثيرة ينسى الكهوجي أحدهم ولا يعطيه، فهذا في نظر الضيف إهانة كبيرة لا يسكت عليها. ونظرا لحدوث الكثير من هذه الحالات، فقد وضعت قواعد اجتماعية ثابتة أهمها: -إذا دق الكهوجي الفنجان بالدلة وترك الضيف، فإن هذا يعني وجود عداوة سببها غمط حق الكهوجي، واعتمد هذه الطريقة للتنبيه بعدم نسيانه القضية وتذكير الضيف حتى يرد اعتباره إليه. - في الولائم الضخمة تكون حصة الكهوجي كبيرة ومنذ البداية، وهناك ظاهرة أخرى وهي أنه إذا تم زواج ما، فإن الكهوجي يجلس في منتصف الطريق ويمنع مرورها حتى يأخذ(كظابة)، وهي مبلغ من المال. وعادات الزواج عندما يرسل الشخص إلى جماعة يطلب يد ابنتهم لتكون عروسه، تقدم في هذه المناسبة القهوة. ومن التقاليد المتبعة في مثل هذا الظرف أن يعرض أهل العريس عن شرب القهوة ويقولونقهوتكم مش مشروبة إلا إذا لبيتوا طلبنا الغالي، وعندما يوافقون على إعطاء العروس، يتناول الجميع القهوة. وإذا صادف أن مر العروسان بأحد المقاهي، اعترضهم صاحبها وصب أبريقا مملوءا بالقهوة الساخنة على الأرض أمام العروسينفكب القهوة خير حسب اعتقادهم. وفي الأعراس يتبارى أهل العريس وأهل العروس في تقديم القهوة. ولشرب القهوة في دول العالم طرائق مختلفة، ففي الهند وماليزيا وتايلند وسنغافورة تشرب بإضافة اللبن عليها ساخنة ومثلجة، وفي دولة قطر حيث الشيوخ يتنافسون في مختلف الشؤون ويتسامرون حول النار التي يجتمعون عليها، فإن صاحبتهم الأولى هي القهوة. وفي الزواج عند الأردنيين ذكرت القهوة، وفي مراسم الزواج عند أهل مدينة السلط الأردنية أنه عند الخطبة يمتنع الخاطبون عن شرب القهوة إلى أن يقول لهم والد العروس أو ولي أمرهااشربوا قهوتكم.. اللي جيتوا فيه ابشروا بيه.