زيتون الأردن.. ماض عريق وارتباط بالأرض

عادات وتقاليد قديمة وموروثات شعبية تتغنى بالزيت والزيتون... ثمارها غنية بالعناصر الغذائية تقي من السرطان، تنشط الكبد وتقاوم الشيخوخة. قال تعالى فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا، فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا. وقال عليه الصلاة والسلام كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة. وتقول العامة القمح والزيت عمود البيت شجرة الزيتون شجرة مباركة لا تضارعها شجرة أخرى في كرم العطاء، في ثمرها غذاء وفي زيتها شفاء وضياء وفي عودها وقود وفي ورقها رداء، تزهو بنظرته الجبال والسهول والتلال على امتداد روابينا الفسيحة الجميلة. منذ البدء امتدت زراعة الزيتون لأقدم العصور وهي من أقدم نباتات الفاكهة التي اهتدى إليها الإنسان منذ أربعة آلاف سنة قبل ميلاد المسيح عليه السلام، بدليل ذكرها من خلال الكتب السماوية التوراة والإنجيل والقرآن وهناك المخطوطات الإغريقية والرومانية والعربية، واعتبرت ثمرة الزيتون رمزا للمحبة عند الشعوب كافة قديما وحديثا، وتناولها الشعراء والأدباء بمؤلفاتهم والأساطير لم تنس ذكرها وفائدتها. وقد عرف الأقدمون فضل شجرة الزيتون وقدروا بذلها فأكثروا من غرسها والعناية بها، وكان لقدماء المصريين اهتمام خاص بها وعرفت باللغة الفرعونية بـ زيتنو وعثر العلماء على هذا الاسم في هرم ثيتي في عهد الأسرة السادسة واتخذ الفراعنة من أغصانها أكاليل وضعوها على رؤوس الموميات، وزرعوا شجرة الزيتون المباركة بكثرة في مدينة طيبة التي اشتهرت بإنتاج الزيت. وإلى الفينيقيين يعود الفضل في إدخالها وانتشارها في أقسام من جنوب أوروبا ونقلها لأكثر مستعمراتهم في شمال إفريقيا، وهم الذين أدخلوها لإيطاليا من بلاد اليونان سنة 627 ق.م. وقد اعتنى بها اليونانيون فاتخذوها رمزا للحكمة والخير والسلام حتى أنهم لم يسمحوا بقطع أكثر من شجرتين من الزيتون في العام الواحد. أما الرومان فقد بالغوا في احترامهم لشجرة الزيتون، لدرجة أنهم لم يسمحوا بحرقها إلا في حدود ضيقة جدا واستطاع علماؤهم أن يتعرفوا على أكثر من خمسة وعشرين نوعا مختلفا في بلادهم. من جانبهم فقد أحب العرب شجرة الزيتون قديما وحديثا ووصفت في القرآن الكريم بالمباركة، قال تعالى: الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور. وأقسم الله بها في القرآن الكريم بقوله: والتين والزيتون وطور سينين ورسولنا عليه الصلاة والسلام حثنا على التداوي بزيتها. وازدهرت شجرة الزيتون في الحكم الإسلامي في الدولة الإسلامية الكبيرة، ويؤكد هذا ما تركه الرحالة المسلمون في مخلفاتهم الأدبية، وكانت فلسطين أكثر ولايات الإمبراطورية الإسلامية زيتونا وأعظمها إنتاجا للزيت بدليل أنها القطر الوحيد الذي كان يدفع ضريبته السنوية زيتا لخزينة الخليفة العباسي المأمون. وقد نقل العرب شجرة الزيتون إلى شمال إفريقيا وبعض مناطق إسبانيا مما ساعد على انتشارها في كل شبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال) وساحل البحر الأبيض المتوسط الأوروبي والإفريقي. موطنها الأصلي زيتونة لا شرقية ولا غربية فقد ورد في إحدى روايات تفسير هذه الآية حول لاشرقية ولاغربية أي ليست من بلاد الغرب ولا الشرق بمعنى أن موطنها الأصلي يقع في المنطقة الفاصلة بينهما والتي كان يطلق عليها قديما بلاد الشام (سوريا، لبنان، فلسطين، الأردن)، ولذلك فأينما ذهبت بنظرك في حوض البحر المتوسط ستجد أن الزيتون كان ولا يزال من أهم المزروعات المنتشرة فيه ويعتبر المصدر الغذائي الرئيس للكثير من العائلات المستوطنة في تلك البلدان. وهناك اعتقاد لدى البعض بأن الموطن الأصلي للزيتون منطقة طور سيناء بمصر استنادا لقوله تعالى: وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين وكذلك قوله تعالى والتين والزيتون وطور سينين. وتبلغ المساحة المزروعة بالزيتون في العالم حوالي عشرة ملايين هكتار، وتشير إحصائيات منظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو) إلى أن 30? من المساحة المذكورة محملة بأشجار مختلفة، والباقي مغروس بالزيتون وحده. وتتبوأ إسبانيا المرتبة الأولى عالميا في إنتاج الزيتون تليها إيطاليا فاليونان والبرتغال وفرنسا والجزائر وتونس وسوريا وفلسطين فالأردن على التوالي. خمسة ملايين شجرة زيتون في الأردن للأردن مع شجرة الزيتون قصة عشق فريدة، فعلى روابيه كانت البدايات الأولى لشجرة الزيتون، وفي سهوله وجباله ووديانه تزين حبات الزيتون جنباته بألوانها الخضراء الداكنة لتضفي على التربة الحمراء مزيجا نضرا دلالة على إبداع الخالق وجمال المكان، فأينما ذهبت في سهول إربد الشمالية وجبال عجلون وروابي السلط وتلال الكرك والشوبك وفي كل مكان تجد شجرة الزيتون تزين تلك السهول والهضاب بنسق جميل يعطي صورة عن ارتباط الأردنيين بأرضهم وتعلقهم بشجر الزيتون الذي يزرعونه ليسورهم بالخضرة والبركة، إلى حد أن اعتبروا موسم قطف الزيتون عيدا يفرحون بقدومه فيعدون العدة ليجنوا الثمار بعد طول انتظار. لا بل إنهم يرددون الأغاني والأهازيج الشعبية المتوارثة ابتهاجا بحلول موسم القطاف. في أي مكان تجد هذه الشجرة المباركة لها حضور وخصوصية فالأرض كلها صالحة لزراعتها فهي الأمل المرتجى لتحقيق ثروة زراعية ثمينة للبلد وللكثير من العائلات الأردنية، خصوصا أنها تعيش في شتى أنواع الترب حتى رديئة التهوية منها، فالزيتون من الشجر الصبور المقاوم لقساوة الطبيعة وإهمال الإنسان، فهي لا تبخل عليه على مدى السنين. وقد اشتهر الأردن منذ القدم بزراعة الزيتون شأنه شأن مناطق حوض البحر المتوسط كلها، حيث ازدادت المساحات المزروعة به وتعددت أنواعه، وتفيد آخر الإحصائيات الرسمية المتوفرة بأن مساحة الأراضي المزروعة بأشجار الزيتون حاليا في الأردن تبلغ ثمانمائة وستة وسبعين ألف دونم في مناطق المملكة كافة كما بلغ إنتاج الأردن من الزيتون مع نهاية الموسم الزراعي الماضي مائة وسبعة وسبعين ألف طن، ويتم تحويل الزيتون إلى كبيس أو رصيع حيث يتم حفظ الزيتون في قوارير زجاجية بعد إضافة الملح والحامض والفلفل إليها من أجل الحفاظ على طعم الزيتون ونكهته لفترة طويلة حيث يتم تقديمه كوجبة محببة لدى الكثيرين. وقد بلغ إنتاج المملكة الأردنية من الزيتون المخصص للكبيس ستة وثلاثين ألف طن، كما تم استخراج الزيت من الزيتون وقد بلغ حجم الإنتاج من الزيت أكثر من مائة وأربعين ألف طن. ولجودة الزيتون الأردني فإنه يتم تصدير جزء منه إلى الدول العربية الشقيقة وبعض الدول الصديقة وقد بلغ مجموع ما تم تصديره خلال العام الماضي ألفا وثمانمائة طن، وتتفاوت مناطق الأردن في مساحة الأراضي المزروعة بالزيتون وذلك تبعا لطبيعة كل منطقة من حيث تضاريسها الطبيعية وجغرافية مواقعها، وتحتل محافظة إربد في شمال المملكة المعروفة بطبيعتها الزراعية المرتبة الأولى من حيث حجم المساحة المزروعة بأشجار الزيتون وإنتاج الزيت في المملكة، وقد بلغ مجموع تلك المساحات أكثر من مائتين وتسعين ألف دونم في مختلف أرجاء المحافظة وبلغ إنتاج المحافظة من الزيتون للموسم الماضي حوالي خمسة وستين ألف طن، تليها محافظة العاصمة حيث بلغ إنتاج الزيتون فيها ستة وخمسين ألف طن، ثم محافظة جرش وقد بلغ إنتاجها من الزيتون تسعة عشر ألف طن تليها محافظة الزرقاء وقد بلغ إنتاجها أربعة عشر ألف طن ثم محافظة عجلون ثلاثة عشر ألف طن فمحافظة البلقاء التي بلغ إنتاجها عشرة آلاف طن تليها باقي محافظات ومناطق المملكة الأخرى. وتجدر الإشارة هنا أن محافظة العقبة جنوب المملكة على ساحل البحر الأحمر هي الأقل إنتاجا من الزيتون دون سواها من باقي المناطق إذ لم يتعد مجموع إنتاجها الكلي للموسم الزراعي الماضي خمسة وستين طنا فقط. وتمثل مناطق المملكة الشمالية أكثر من خمسين في المائة من مجموع أشجار الزيتون المزروعة في المملكة والبالغة حوالي خمسة ملايين شجرة زيتون ويتم زراعة عشر شجرات من الزيتون في الدونم الواحد. وحول أنواع الزيتون التي يتم زراعتها في الأردن بشكل عام ومحافظة إربد بشكل خاص يقول المهندس الزراعي أحمد الخزاعلة من مديرية زراعة أربد إن هناك عدة أنواع تزرع في محافظة إربد أهمها الروماني نسبة إلى الرومان الذين استوطنوا بعض مناطق المحافظة وقاموا بزراعة شجرة الزيتون وأصبحت تعرف فيما بعد بالزيتون البلدي وهو المنتشر على نطاق واسع في البلاد حيث تصل نسبة الزيت المستخرج منه إلى حوالي ثلاثين في المائة من حبة الزيتون الواحدة، وهناك الزيتون الصوري ذو اللون الأسود، وهناك أيضا الزيتون النبالي الذي تعود أصوله القديمة إلى منطقة نبالي في فلسطين، وأصبح يتفرع منه أصناف عدة بالإضافة إلى شجر الزيتون اليوناني الذي تعود أصوله إلى اليونان وتكون حبته كبيرة، وبالإضافة إلى هذه الأنواع فإن وزارة الزراعة الأردنية تقوم بإنتاج أصناف عديدة ومحسنة لأشجار الزيتون وزراعتها في مناطق مختلفة من البلاد. ويضيف المهندس الخزاعلة أن محافظة أربد هي الوحيدة بين مناطق المملكة التي تحتوي على أصناف الزيتون كافة بسبب طبيعتها الزراعية وتربتها الغنية، ويبدأ إنتاج شجرة الزيتون عند عمر خمس سنوات تقريبا ثم يأخذ الإنتاج بالزيادة تدريجيا حتى يصل ذروته بعد عشرين سنة إذ يصل إنتاج الشجرة الواحدة إلى أكثر من عشرين كيلو غراما من الزيتون، وهناك بعض الأشجار التي ربما يصل إنتاجها إلى حوالي مائة كيلو غرام!. وفي محافظة إربد يصل عمر بعض أشجار الزيتون إلى مئات السنين، ولا يعرف تاريخ محدد لزراعتها إلا أنه يعتقد أنها تعود للعصور الرومانية التي مرت على المنطقة منذ القدم. استقبال موسم القطاف بفرح ومع اقتراب موعد قطف الزيتون الذي يبدأ عادة بعد منتصف شهر تشرين أول من كل عام ويستمر حتى نهاية كانون أول يستعد المزارعون لجني ثمار الموسم يملؤهم الفرح والسرور بثمار وفيرة وإنتاج غزير. يقول السيد سعيد عبيدات أحد مزارعي الزيتون في محافظة إربد: يتم قطف ثمار الزيتون عند بدء الموسم حيث يصبح لون حبة الزيتون أخضر أو أسود ويتم قطف الزيتون إما للكبيس وإما الرصيع، عندما يصبح لونها أخضر فاتحا، أو لإنتاج الزيت بعد تلون غالبية ثمار الشجرة الواحدة باللون الأسود. ويصف المزارع عبيدات عملية القطف قائلا إنها تتم من خلال وضع مفارش واسعة تحت الشجرة وجمع الثمار في مكان معين ثم يتم إرسالها بعد ذلك إلى معصرة الزيتون القريبة في المنطقة ثم بعد ذلك يتم حفظها في جالونات نظيفة كبيرة أو بيعها مباشرة للزبائن، وهناك بعض المزارعين الذين يقومون بتخزين الزيت في بيوتهم لموسم أو أكثر واستخدامه عند الحاجة حيث يحفظ في مكان بعيد عن الضوء والحرارة والروائح الكريهة لأنه قد يتأثر بهذه الروائح، وينصح البعض بعدم تخزين الزيت في قوارير زجاجية لأن من شأن ذلك السماح بدخول الضوء إليها مما قد يؤدي لتغيير لون الزيت الطبيعي وبالتالي تغير طعمه. معاصر ومعاصر تنتشر معاصر الزيتون بكثرة في مناطق مختلفة من المملكة حيث يبلغ عددها أكثر من مائة بين حديثة ونصف آلية، ويوجد اثنتان وأربعون معصرة في محافظة إربد حيث تبدأ باستقبال ثمار الزيتون تباعا من المزارعين وتتم عملية عصره عن طريق الفرازة الخاصة بالماكينة ثم تعبئة الزيت وتفريغه بجالونات نظيفة يتسع الواحد منها إلى حوالي عشرين كيلا، حيث يتم تخزين جزء منه وبيع الآخر للزبائن مباشرة بعد عصره كما يقوم بعض المزارعين باستخراج الزكاة عن إنتاج الزيت حيث يوزع على بعض العائلات المحتاجة، وتعمل معاصر الزيتون على مدار الساعة خلال موسم القطاف حيث تتكدس أطنان الزيتون بأكياس كبيرة في ساحة المعصرة بانتظار عملية عصرها وتستمر المعاصر في عملها هذا حتى نهاية موسم القطاف لتوقف دواليبها بانتظار قدوم الموسم القادم. وللتأكد من سلامة الزيت الذي يتم إنتاجه وتحديد نوعيته وجودته قال المهندس الزراعي فواز أبو سالم رئيس قسم الإرشاد الزراعي في مديرية زراعة إربد يمكن معرفة نوعية الزيت إما بإجراء التحاليل المخبرية الخاصة وإما من طعم الزيت ولونه بالاعتماد على الذوق والرائحة أيضا، ويضيف أنه إذا كان لون الزيت أخضر داكنا وكان ذا طعم لاذع فهذا يعني أنه طبيعي وسليم، أما إذا كان اللون أصفر كاشفا فإنه غير سليم مغشوش ومعظم المزارعين لديهم القدرة على تحديد جودة الزيت إن كان طبيعيا أم لا وهذا يتأتى من عامل الخبرة لدى هؤلاء التي اكتسبوها خلال عملهم الطويل في قطف ثمار الزيتون وعصره. ذكريات الحاجة فاطمة أم حسين ذات الثمانين عاما من قرية كفر أبيل في محافظة إربد تروي ذكرياتها مع شجرة الزيتون قائلة أنها قضت عمرها منذ كانت صبية في قطف ثمار الزيتون عند والدها الذي يملك أرضا مزروعة بالزيتون، وأنها كانت تخرج مع أفراد أسرتها خلال موسم القطاف إلى حقول الزيتون وينشدون جميعا وهم فرحون: زيتونتي أطيب عروس ما بتتثمن بالفلوس تحميني الفقر والبؤس ومن شر يوم عبوس وتذكر أم حسين كيف كانت تتم عملية عصر الزيتون قديما وذلك من خلال سلق الزيتون بالماء والنار ومن ثم استخراج الزيت وعصره عن طريق العصر والكبس بالحجر، ومن ثم تخزينه في قوارير وجرار فخارية في مكان مرتفع بعيد عن ضوء الشمس، وكانوا يستخدمون ثمار الزيت المستخلصة (الجفت) كوقود للنار والحطب بعد تجفيفها، كما كان الزيت يستخدم في الإضاءة وذلك عن طريق وعاء زجاجي مملوء بالزيت من خلال قطعة قماش مبللة بالزيت المضيء بدلا من النفط. وتصف لنا أم حسين كيف كانت تتم عملية فحص الزيت والتأكد من جودته وذلك بوضع كأس من ملح الطعام في جالون الزيت فإذا تغير لون الزيت فذلك يعني أنه غير نقي. ونشير هنا إلى أنه تكاد لا تخلو مائدة أردنية من طبق أو اثنين من الزيت والزيتون البلدي وخصوصا على مائدة الإفطار والعشاء، كما يقدم الزيتون المكبوس باعتباره أحد المقبلات والمشهيات المهمة في العديد من المطاعم الأردنية على اختلافها كما تصر العديد من العائلات الأردنية على استعمال الزيت البلدي، وإدخاله في جميع أنواع الوجبات الغذائية التي تتناولها بشكل يومي، ولعل فوائده الغذائية والصحية العديدة بالإضافة إلى سهولة حفظه وتحضيره تجعل منه غذاء لدى غالبية الأسر الأردنية وخصوصا الفلاحين وسكان القرى التي تنتشر بها زراعة الزيتون بكثرة.