المطبخ المصــــــري جمـع بـين التاريخ والبيئة

يقول العارفون بمصر إنها بلد العراقة والتنوع والتعدد. وهكذا هي الأكلات المصرية. فالأكل المصري يمتد به التاريخ عمقا إلى (5000) عام.. أخذ من الآخرين الكثير من الأكلات والوجبات واستوعبها من خلال بيئة ثرية المناخ، والتربة عذبة المياه كثيرة الخضرة.. تجود زراعاتها وحيواناتها وهما من العناصر المهمة التي تعطي للمواد الغذائية وللطعام مذاقه وطعمه. عبر الإمبراطورية الفرعونية القديمة التي امتدت إلى دول الشام.. وخلال موجات الاحتلال والغزو التي تعرضت لها من الهكسوس والفرس واليونانيين والرومان والفرنسيين والأتراك والإنجليز.. كان هناك امتزاج وتلاقح في كثير من أوجه الثقافات والعادات، وخصوصا في مجال المطبخ. أيضا بعد دخول مصر في الإسلام بعد فتحها على يد عمرو بن العاص تأثرت وأثرت في الوجبات والأكلات المحيطة بها. فقد تأثرت بما كان في الجزيرة العربية والعراق والشام، حيث كان الانفتاح بين بغداد ودمشق والقاهرة والمدينة المنورة، بل وامتد ذلك إلى القيروان ودول المغرب العربي. أخذ المصريون الثريد والفتة من العرب، كما أدخل العرب أصنافا جديدة وفواكه جديدة إلى مصر. فـ البطيخ العبدلاوي أدخله عبدالله بن طاهر بن الحسين بن مصعب أمير مصر من قبل المأمون عام 211هـ، وأخذ اسمه منه، وزرعت بمصر ألوان العنب والتين والخوخ والكمثرى والرمان والسفرجل والنارنج والليمون البنزهير أو ما يسمى المالح أو الليمون المصري. وأيام الحكم الإسلامي أصبحت مصر حاضرة إسلامية كبرى، وانتعشت بها الحياة الاقتصادية. وتبعا لذلك ومع خصبها ووجود ماء النيل بها عرفت من أنواع الجبن الحالوم والأبيض والمشوي والأزرار والمقلي واللبن الحامض (الزبادي) واللبن الرائب والقشدة والسمن والزبدة، وكان بها الخبز الأسمر والخبز الرومي (الأبيض)، وكان هناك لحم الضأن والماعز والبقر والجاموس والجمال، وكان هناك اللحم السميط أي المسلوق - المطبوخ. كانت الخضراوات بألوانها موجودة.. البامية والملوخية والسلق والبقدونس والفجل، وزيت الزيتون والبرج (السمسم) والحار (الكتان)، كما وجدت الحنطة (القمح) والدقيق والشعير والأرز والعدس والفول. لقد أصبح لكل هذا ميزة للمطبخ المصري قديما وامتد ذلك إلى الوقت الحاضر. إن رائحة المطبخ المصري تعبق بروائح الشواء، والطيور واللحوم المحمرة، وطواجن الأرز المعمر، وصواني الرقاق المصنوع من القمح، وكما عاشت حتى الآن أكلات فرعونية كالعدس والبصارة وأكل الفسيخ والبصل والبيض في شم النسيم.. برزت أيضا أكلات حديثة تمتد لأكثر من مائة عام كالكشري والطرب.. أما الأرز المعمر فقد كان معروفا منذ العصور الوسطى أيام عهد المماليك. من جحا إلى أفندينا طبق الكشري من الأطباق الشعبية المصرية المفضلة.. كثيرون يقبلون على هذا الطبق، وأصبح هناك آلاف المحلات التي تبيع الكشري ولكن قلة منها من أنشأت محلات على مستوى راق، أو ما يطلق عليها مطاعم خمسة نجوم.. ولأن المستهلك يتطلع دائما إلى المكان الأنيق والنظيف وطيب المظهر، لذا نجد إقبالا متزايدا على هذه المطاعم. في سعينا لالتقاط الأطباق المصرية، وفي حي الدقي يقف محل أفندينا للكشري أنيقا نظيفا يغطي الرخام الأبيض واجهته، يرتدي عماله زيا خاصا، وفي المناسبات يعتمرون الطربوش على رؤوسهم.. التقينا مديره المعلم جابر طعيمة وبادرناه بالسؤال عن تجربته مع طبق الكشري فقال: لي الآن (50) سنة في هذه المهنة.. عملت في محلات صغيرة ثم عينت مديرا لمحلات جحا للكشري في شارع عماد الدين بالقاهرة. وطبق الكشري يعد طبقا محبوبا من كل الطبقات: الأغنياء والفقراء، وهو طبق مكتمل غذائيا وفاتح للشهية. وقد أصبح هناك طابع أوسمة أو شفرة تميز أطباق هذا المطعم أو ذاك، وعلى حسن المذاق والجودة يأتيك الزبون. ولكن ما هي جذور هذا الطبق في مصر؟ - في القاهرة والإسكندرية عرف هذا الطبق قبل (100) عام، حيث كان هناك من يجلسون على النواصي أو يجوبون بعض المناطق بعربات تبيع الكشري، ويقال أن أحد الإيطاليين أو الخواجات بدأ بعمل المكرونة، وكان يضع عليها صلصة الطماطم، وسائل الشطة الحار، ثم تطور الأمر إلى ما عليه الآن من خلطة متنوعة.. أيضا يقال أن بعض الرجال والنسوة منذ أكثر من (100) سنة كانوا يصنعون من القمح الشعرية وكانوا يكسرونها ويخلطونها مع الأرز وتباع للناس في المدن. ولكن ماذا وراء جحا وأفندينا؟ - دائما الأسماء ذات الخلفية التراثية والخفيفة تشد الناس، وقد شاركت في اختيار اسم محلات جحا.. وأصبح الاسم منتشرا ومتداولا على الألسنة.. ثم رأيت أن أستقل وأفتح سلسلة مطاعم للكشري وبدأت بهذا المحل، وكانت هناك أسماء كثيرة اخترناها وأخيرا استقر الرأي على أفندينا. وعلى الرغم من أن المطعم له عامان فقط إلا أنه أصبح ذا شهرة كبيرة والحمد لله. لكن ما سر خلطة الكشري ومم تتكون؟ -الكشري عبارة عن مكرونة سواء اسباجتي أو عادية وأرز وعدس بجبة ثم العطارة كالكمون والفلفل وجوزة الطيب (بلح الطيب) وورق الراولا.. ثم الصلصة المصنوعة من الطماطم الطبيعية، وكذلك البصل والدقة من الخل والليمون، ونحن نهتم باختيار أنظف المواد الغذائية. وأغلاها، ولا ننظر إلى الربح بقدر ما ننظر إلى السمعة الطيبة؛ لأننا بتميزنا يكتب لنا الاستمرارية والنجاح. الدهان رائحته غموس وفي حي الحسين بالقاهرة القديمة تشعر أنك في قلب التاريخ المملوكي. فبوابة المتولي والأزهر وجامعة الأزهر والشوارع والحارات الضيقة حيث تباع المقتنيات القديمة، وباعة الذهب والفضة وقهوة الفيشاوي ومسمط الكوارع.. جو يبعث على الراحة والسياحة والتأمل.. صحيح أن الزحام يلف المكان ولكنه زحام أنيس ولطيف. وسط كل هذا يقع مطعم الدهان الشهير يطل على ميدان مسجد الحسين بن علي. دلفنا إلى المطعم ونحن مأخوذون بشهرته في المشويات، وبالفعل فقد كان الدخان المعبق برائحة الشواء يفتح الشهية (وقد كان صاحبكم جائعا)، فما بالك بالطعام نفسه.. هكذا قال لنا المعلم صبحي وهو يستقبلنا ببشاشة عندما علم أننا أهل صحافة.. بادرته بالسؤال عن سر الإقبال على مطعم الدهان فقال: - الأمانة هي سر الإقبال.. نحن أمناء في كل ما نقدمه من طعام.. نحضر أجود أنواع اللحوم من الضأن البلدي ومن بقية اللحوم الأخرى.. لدينا مصداقية في طبخ الطعام أو شوائه، ودائما عيوننا على الزبون وكلما أحبنا الزبون أحببناه.. لا يهم هنا المكسب المادي، ولكن المهم المكسب المعنوي والسمعة. -وزبائنك؟ - زبائننا من كل مكان.. يأتينا الضيوف من كل البلدان العربية ومن مصر، كل الطبقات تأتي إلينا، ولدينا دائما أفضل الشواء من اللحوم والطيور، ولدينا وجبات أخرى لكل مستوى، ولدينا الطرب ولا أنسى أبدا أن زبونا من دولة الإمارات العربية المتحدة يجيء إلينا كل صيف وطبقه المفضل هو الطرب. وسألنا المعلم صبحي: ماذا تقدم إذن لقراء عالم الغذاء؟ فقال ضاحكا: كل شيء هنا لذيذ وشهي، ولكن أفضل طبق الطرب لأنه جديد بعض الشيء على إخواننا في دول الخليج. للتمتع بما سبق من أطباق شهية، زوروا المطبخ الإلكتروني في موقع باب.