المائدة الفرنسية.. أصل الإعداد والتقديم

إن من الأمور القليلة التي يتفق عليها المنظرون لأصول إعداد الموائد والإيتيكيت في التقديم أن الفرنسيين هم الأساس..! الأساس في إعداد الموائد.. والأساس في فنون التقديم، وقد أسلم لطرائقهم الزمام.. في كل أنحاء العالم.. ومنذ القدم. فما ادعى أحد أنه يتبع أصول الإيتيكيت في إعداد الطعام وتقديمه إلا وقصد الطريقة الفرنسية، وما زعم أحد أنه يتبع الذوق الرفيع في ترتيب المائدة إلا ومارس الطريقة الفرنسية.. ذلك في موائد المناسبات الراقية.. وفي مطاعم الخمسة نجوم وفنادقها.. وحتى في الحفلات الرومانسية أو الكلاسيكية. وطرائق الإعداد والتقديم الفرنسية هذه لا تنحصر فقط في كيفية أخذ الملعقة والشوكة، أو مكان وضع كأس الماء والمنديل.. بل هي ممتدة حتى في مكان وتوقيت وضع أطباق الطعام. ويلخص مسألة التوقيت هذه الدكتور وليد قاسم -نائب المدير العام لشركة المطاعم الراقية الذي عاش وجاب فرنسا سنين عديدة من حياته- بأن الأمر يبدأ بوضع طبق السلطة (أو الحساء) ثم يرفع ليوضع الطبق الرئيس، ثم يرفع ليوضع طبق الجبن ثم الحلوى.. وربما كان بين هذه الأطباق أطباق أخرى ترفع وأخرى توضع حسب المناسبة. أي لا يوضع على المائدة أكثر من طبق في كل مرة. إيتيكيت وجوائز وليس أصول الإيتيكيت وحدها هي ما تميز المائدة الفرنسية، بل يفخر الفرنسيون بأن مطبخهم هو الحاصد الأول لجوائز فن الطبخ العالمية دائما.. وأبدا. وربما لا نسلم نحن الشرقيين أصحاب ذوق التسبيك والبهارات لمثل هذه الحقيقة.. إلا أنها حقيقة..! فما السر وراءها؟ برع الفرنسيون في إعداد الصلصات، فعندهم منها عشرات الأسماء بداية بصلصة بيارنيز ونهاية بصلصة بورغينيوز.. وهم يعدونها بأكثر من طريقة: فمرة ساخنة بالجبن، ومرة باردة بالزبدة، وثالثة بالبهارات، كما أن للخل المصنع من العنب والفواكه شأنا آخر في أطباقهم. ولخبرة وطريقة إعداد المعجنات شؤون أخرى عندهم. ومما يميز أطباق فرنسا استخدام زيت الزيتون والزبدة، ولديهم خبرة عريقة في خلط الأعشاب التي تضاف لأكلاتهم. وقد استطاع الفرنسيون جمع كل ما سبق من خصائص وتسخيرها في إعداد أطباق الأسماك والمأكولات البحرية وبعض الطيور التي قلما يستخدمها شعب آخر مثل البط والحمام.. فكانت الأيام تمر وهم يطبخون ويتذوقون ثم يقننون ويؤصلون.. حتى كان التميز وحصد الجوائز. مواجهة الهجوم إن الشعور الدائم لدى الأجيال الفرنسية المتلاحقة هو أنهم متميزون وعريقون في حضارتهم.. في لغتهم وثقافتهم.. وفي مطبخهم.! وإن كانت شعوب عديدة تمارس هذا الشعور إلا أن الفرنسي يأخذ الأمر بشيء من المبالغة لحدود وضع الحمى حول ما يملك من عراقة. فهو دائم التصريح والحماية لثقافته وأصول عاداته.. إلا أن تيار اتصالات القرية الكونية بدأ يزحزح الشيء الكثير من هذا الشعور لدي جيل الشباب. فها هي القرية الغذائية الواحدة التي تزحف براية الهمبرغر والوجبات السريعة الأمريكية قد أخذت بعقول (وبطون) الشباب الفرنسي. وطبيعي أن يرفض جيل الآباء وما بقي من الأجداد هذا التغير (وهم فرنسيو الشعور). ويحدد أبعاد مثل هذه المواجهة الأستاذ نيكولا ريكوم (من السفارة الفرنسية بالرياض) عندما سألناه عن هذا الأمر بقوله: نعم.. إن الشباب الفرنسي قد أحب واعتاد الوجبات السريعة، فهم يأكلونها في كل وقت.. ولكن ما زالت الأمهات يحرصن وبشدة على جمع أفراد الأسرة على الأطباق الفرنسية مساء، وما زالت الوجبات الوافدة تحارب من أساتذة الطبخ الفرنسي مثل الأستاذ جان بيار كوف وغيره، وهناك اعتزاز بالمطبخ الفرنسي وعراقته، كما أن هناك وجبات فرنسية سهلة الإعداد وألذ مذاقا من الوجبات الوافدة... خصوصيات غذائية بقي بعض التأملات المتفرقة عن عادات الفرنسيين مع طعامهم، فإن كان الفرنسيون مجمعين على شراء الخبز الفرنسي ساخنا أولا بأول في كل وجبة، وهم محبون لإعداد أطباق الأسماك والمأكولات البحرية، إلا أن هناك خصوصيات أخرى في عاداتهم بل وأطباقهم، فمثلا في المناطق الشرقية مثل ألزاس ولوت نجد أن الطبق المفضل هو الملفوف المحشو باللحم المفروم، وفي الوسط الشرقي مثل منطقة بورغون نجد الديك الرومي بالصلصة والزيت، أما في الشرق مثل منطقة تولوز فطبقهم المفضل هو الفاصوليا باللحم.. أما الجنوب حيث البحر المتوسط فإن معظم السكان هناك لا يزالون يحبون السمك ويعدون أطباقهم من زيت الزيتون والحبوب ويقللون من اللحم.. وقصة هذه المنطقة ووجباتها مع الصحة الجيدة قد تفنن التاريخ في تأصيلها وسردها علينا.