الضيــــــــاع

أثناء دراسة صديقي في بلاد الغربة زاره والداه، وسأدعكم لمشاعره وكلماته لكي تصف لكم ما حدث، يقول صاحبي: كان يوما مشمسا، وكان والدي ـ حسب عادته منذ بداية زيارته ـ يستعد للخروج من المنزل ليتمشى مستمتعا بالجو الجميل في هذا البلد. لكن في ذلك اليوم خطر في بال والدي أن يشتري بعض الصحف العربية لكي يعلم ماذا يحدث في عالمنا. فسألني عن موقع بيعها، ولما كنت أعلم أن والدي لا يعرف الإنجليزية تماما، وصفت له الطريق بكل حرص وذكرت له سعر كل صحيفة حتى لا يغش من البائع. انطلق والدي في رحلته حوالي الساعة الحادية عشرة صباحا. وانشغلت في قراءة بعض الأبحاث والأعمال الأخرى، ولم أبال حين تأخر والدي عن صلاة الظهر لأنه يجمع ويقصر بحكم السفر. لكن بعد صلاة العصر حوالي الرابعة بدأت والدتي بالقلق، ولم يلبث ذلك القلق أن انتقل إلي. إنها خمس ساعات من الاختفاء. هل ضاع أم فقد الوعي أم اختطف؟؟ أسئلة سرعان ما طافت في خاطري، جعلتني أخرج من المنزل بغير هدى ولا تخطيط. لم يخطر ببالي أن ألجأ إلى الإخوة الذين يدرسون معي ويعرفون والدي، بل انطلقت أقتفي المسار الذي وصفته لوالدي. كان الموظفون قد بدؤوا في الخروج من أعمالهم، والشوارع مكتظة بالسيارات والبشر، وكانت سيارتي تتحرك ببطء كأنها سلحفاة على بركة من طين. ولم أكد أقترب من موقع بائع الصحف حتى اكتشفت أن حفريات جديدة قد قامت هناك، ولكي يكمل الإنسان طريقه عليه أن يدور حولها، فهل دار والدي حولها وضاع. أم لم يعلم أنني أخطأت في وصفي فمضى مع الطريق الجديد. أم ماذا.. أم ماذا؟ هل أضعت والدي؟ هل أخليت مسؤوليتي نحو من أمرني ربي بأن أكرمه ولا أقول له أف ولا أنهره؟ ماذا صنعت بنفسي؟ هل سيأتي يوما يعاقبني ربي بأن يضيعني ولدي؟ بل ناهيك عن ذلك كله؛ هل ضيعت أعز الأحياء إلي حبيبي وصديقي ومعلمي ومربي والدي، أين أنت، أين أنت؟. ضاقت علي الأرض بما وسعت، ولم أعد أعلم هل ما أراه من غبش وقطرات أمامي من دموعي أم من الأمطار التي بدأت تنهمر. مسحت عن عيني دموعها، ونظرت إلى ساعتي فإذا هي تقترب من السادسة مساء واقترب غروب الشمس ولازلت أدور بدون هدف ولاهدى، وحدي أبحث عن أبي؟ وانطلقت صيحة مخنوق لا رفضا لإمكانية ألا أرى أبي مرة أخرى. أين أنت والدي. أتهيم بين هذه الأمطار في هذه الغابة من المباني الخرسانية. هل خطفك مجرم من هذه الحضارة البدائية، هل تدعو الله على ولد قصر في حقك. ماذا أقول لربي حين يسألني كيف ضيعت ما استرعيتك إياه؟ كيف أهملت حق والدك؟ كيف قصرت في مسؤوليتك؟ عندها جف حلقي جفافا عرفته بقية عمري، واستمرت عيني بالنزيف وعقلي باللوم وقلبي بالخفقان القاتل. لكن لساني لازال يلهج بذكر الله واللجوء إليه اللهم اغفر وارحم فأنت خير الراحمين، اللهم يامعين أعني على العثور على والدي، اللهم لاتحملني مالا طاقة لي به ثم تخرج صيحة مخنوقة، يخرجها عقلي الذي لم يرحمني لحظة، لا.. سأجد والدي فربي لا يمكن أن يحملني هذا الذنب والعبء بقية عمري، فإني لا أطيقه رحماك ربي، رحماك ربي. سألت نفسي هل لا زلت أتذكر صورة أبي، كيف خرج بلباسه الفاتح ووجهه الصبوح. تذكرت وجهه الباسم الحنون، وتذكرت كلماته التي كانت دوما خير موجه مدى عمري. تذكرت والدي وهو غاضب من ضعف درجاتي الدراسية، وتذكرته سعيدا بتفوق حققته. تذكرت يده التي طالما أدبتني وتذكرت دمعته التي ذرفها علي يوم حادثتي الأولى بالسيارة، تذكرت أياما سعيدة وأخرى تعيسة، لكن صورة أبي كانت دائما هناك. وصحت مرة أخرى لا.. سأراك مرة أخرى يا أبي ولن أعيش على ذكراك، أبي أين أنت؟. ولم أشعر بالوقت يمضي، وبالشمس تغرب وبالليل يسدل خيوطه. ولكن مع شعوري ببداية ظلمة الليل، علمت أنه لاسبيل لي بأن أستمر بالبحث وحدي، فقد أزفت الساعة السابعة، وأبي متغيب منذ ثماني ساعات تقريبا، ولم يعد للمنزل كما علمت من أهلي هاتفيا، وللأسف لم يجد أهلي الزملاء في منازلهم لكي يخرجوا للبحث. وكان لابد أن أعود لأنسق مع الإخوة كيفية البحث والأماكن التي يمكن أن يكون والدي فيها، ولكي نبلغ الشرطة والمستشفيات ...إلخ.. وتحركت محطم الآمال إلى المنزل، لم أكن قد استسلمت لليأس تماما، لكنه بدأ يتملكني. كان شعوري أن والدي أصبح ذكرى، ثماني ساعات مرعبة مررت بها، أقلب نظري في كل مكان، رأيت فيها نصف سكان المدينة، ولكن لم أر شخصا يشبه أبي. ولدي كلمة اصطدمت بسمعي، أخيال أم وهم أم صوت ضل سبيله إلى أذني. إنه صوت أعرفه، من أين أتى، الله أكبر ذاك أبي، هناك يحتمي تحت مظلة السوق من الأمطار المنهمرة بدون توقف. هاهو يقبل كطيف أرسله الله علي لينهي عذابي وألمي. ركب أبي معي السيارة بعد أن عطلت سير السوق لدقائق، وانهمرت عليه أقبله بين رأسه ويديه، لكي أتأكد أنه هنا بجواري وليس خياله. كان منهكا من المشي والمطر، لكنه هنا بجواري، عاد لي والدي، فالحمد لك يارب. كان يوما شاقا على والدي، لازالت آثار أمطار وبرودة ذلك اليوم تعمل في صدره إلى الآن، ولازلت أفزع من نومي كلما تذكرت تلك الساعات بالرغم من مرور بضع سنوات على ذلك. بقي سؤال يخطر على بالي أحيانا، هل كان من الممكن أن نتفادى هذا الحدث؟. قلت لصديقي: هناك أساليب كثيرة لإيجاد الضائعين، ولتفادي ضياعهم أصلا، مثل كتابة العناوين والهواتف معهم، بلغة البلد بحيث يمكنهم إبرازها للشرطة لكي يوصلوهم لبيوتهم، بل يمكن أن يكون معهم أجهزة دقيقة لتحديد مواقعهم لكي تصل إليهم. لكن ذلك كله لا ينفع إذا قدر الله أمرا. نشر في مجلة (الأدب الإسلامي ) عدد (29)بتاريخ (1422هـ)