شمال الخريف

-1- وكان الماء يسكن جسد الزهرة، قبل أن يفتح الرصاص نافذة في خاصرتها.. أعرف أنه حين يخترق الصدر يشكل نهرا من الدم، يبلل التراب والأحلام والضفاف. خراب يجتاح مدن الينابيع، كيف يهدمون بيوت الصباح الصغيرة المنتشرة فوق هضاب قامتنا الفسيحة؟ وينبثق قمر الهواء من خلف خلايا الصخور، تلك الطفولة تمد وجهها، فمن يمنحها حليب النهوض، ويسقط الخوف عن كاهلها؟! ويقترب نسغ الشجر لليباس، هل نصير حزمة من حطب؟! -2- وقبل أن يصير الصيف خريفا، أذكر أن ورق المساء تساقط على أسفلت المدن الكسولة، تلك التي لم توضبه في حقائب الهواء، ولم تصنع شيئا سوى أنها كانت تنام بعمق، ومرات كانت تستيقظ لتطلق نباحا قصيرا مرتجفا، ومتقطعا، وكسولا.. قبل أن يصير الخريف صيفا .. جف ضرع المدينة.. وتحولت أصابعها إلى عظام جرداء. هي المدن تنام مترهلة، ولن تستيقظ إلا على خراب الأنهار.. أدعوكم لأن تهزوا سرير المدينة، حذار أن يستوطن الطحلب بحيرات الياسمين، وإن لم تستيقظ فلا حاجة لنا بكم. -3- أو ليس لك ضفاف؟! آخر المدن أول الضياع، لا تخف أن تضيع ملامح الجبال؟ لا تخف، ما زالت أنفاس القصب والمواويل تعبئ رئتيك؟ لا تخف، فحكايات المهاجرة وخاتم شبيك لبيك تطوق معصم روحك بأحزان المواقد و الكوانين الباردة حيث كان للنهار موضع فوق مصاطب القلب، حين كان العصر بعيدا، وحين لم يكن للهشاشة موضع في حديقة الروح. -4- أول الصباح.. أول الخريف، أتذكر أيها النهر؟ توددت إليك كثيرا.. أرجوك يا سيد النهر أن تتابع عزفك الجميل فوق أوتار الحصى. وفجأة توقفت .. فتكت العاصفة بالحمامة وانكسر غصن الصباح الذي كانت تحط عليه.. لم يعد للحمام مطرح أو متكئا.. وبين الخريف والخريف مغاور لليباس نضيع في ظلماتها، ويغطي عيوننا رماد ثقيل. -5- ليس لي أن أضمك أيتها السنبلة.. أعرف أن الجنون وحده يعانق الفراغ. ولن أتوج عناقيدك بالقبل أيتها الدالية بعد أن مزق العطن بريق حباتك واستوطنك لون الخريف.. ولست حزينا كما تتصور يا سيدي العصفور، فقريبا أمزق جلبات قفصك، وأطلق جناحيك للريح.. ولن يكون لنا لقاء بعد اليوم.. سأدعك تحلق عاليا وتغوص في الزرقة العميقة، وهناك.. هناك يا سيدي العصفور أغسل عينيك بماء الشجر المسافر في عربات الريح ولا تغضب، فقد يكلل هامتك الثلج، وقد يحتويك التيه بين ذراعيه خلف تلك المفارق البعيدة، حيث تكتسي روحك بالصفاء، وحيث تنكسر عقارب الوقت، وفجأة قد تصير وحيدا ويخيم السكون المتعب. -6- شمال الخريف تفتح محاكم الشجر .. أروقتها .. قضاة ومرافعات.. ظالم ومظلوم.. وألسنة تنتظر القصاص.. من غير مجراك أيها النهر؟ من سرق صوتك أيها العصفور؟ من هدم بيوت الينابيع؟ ومن راود السنبلة عن نفسها؟ من سيمزق جلبات القفص؟ من؟؟ ويفتح العدل كتابه الصغير، يتلو علينا حكم الشجر. وما زالت الأروقة تغص بمن سرقوا الماء، وبمن ساطوا الدروب.. و.. و..؟ ويغلق العدل كتابه الصغير.. ورق ومجرمون.. انكسارات وهزائم.. صياح وشتائم، وصغار يلصون جيوب المتسولين.. محكمة الشجر أوقفت زحف الربيع.. ولم يكن الصباح راضيا أن يشتت أناشيد عذوبته زعيق المغنين، المشبعين برداءة الصوت واللحن والكلمات.. وأول الخريف يحرن النهر.. آخر درجات اللون البني كانت أول لحظات الموت، غير أن النهر لن يسكت أبدا.