النوم

كما لو كان الندم سارية حتى نعبر هذه المدينة والتجوال في ساحات أخرى. مازالت مأنوسة بالناس والأطفال، والأضواء والعابرين، ذلك مستحيل، لكن من يريد شيئا ويرغبه، لابد له من تنفيذه، وهكذا تجد المساءات مليئة بجمهرات الأشباح والأطياف، بظلال الأكفان والتوابيت، وبكثير من السائرين على الماء.. يسيرون على الماء، وأنت تحلم بالسير في الهواء. وأنت لا تسيرـ بل تطير. وأنت لا تطير، بل تزحف كدودة في التراب، تتبع الضوء، وما من ضوء، فتجمد في مكانك تنتظر الفرج، وقد أطبقت السماء على الأرض سحاب أسود، لكن المطر يرفض الانهمار، الخصوبة غادرت هذه البقعة، غادرت المدينة، وأنت مصفد إلى أوهامك، تمتلئ باللجاجة التي لا جدوى منها، وتستمر فيها، لكن أحدا لا يصغي إلى هذيانك، الكل مشغول باستباحة المدينة، وأنت كأنك شاعر تحلم بها عذراء بكرا. تلتفت يوما ما إليك، وتزف نفسها لك كي تمنحك سعادة مازالت تساورك في ليلك المؤرق الطويل. ربما كان هذا حقك، وحق كل كائن مرمي على سطح هذا الكوكب المريض بالريف والنفايات، لكن الحق دون قوة لتنفيذه والحصول عليه لا يكون حقا، فمن أين تأتيك هذه الهواجس البائدة، لقد تغيرت الدنيا، وغدوت محكوما بقوى خفية لا تقوى على مقارعتها، خاصة وأن عمرك لم يعد يسمح، لم تعد أسنانك سليمة، وشاب رأسك سريعا، من أهوال حوادث الزمان التي تمر بك تباعا، ولم تعد تحرك ساكنا لتلافيها، أو مقاومتها، أو لتفهمها حتى لا تقول في سريرتك المستباحة، الوقوف معها أو ضدها، وكيف ستقف أي موقف ملائم أو غير ملائم، إذا الكل خانعون زاحفون إلى التيه والمجهول، ولم يعد من أحد يقف أي موقف سلبا أم إيجابا من أي شيء.. كأنك مشعوذ . تريد أن تشكل مناخا من الذكريات، يقيك شرور العالم الذي يتساقط عليك صواعق، أو شهبا ونيازك تخترم قلبك، لكن دون أن تسيل دمك، فقد تحول الدم ماء، ولم يعد الآخرون يقيمون أي وزن للدماء التي كانت تسند العالم وتوازنه كما كان، أما الآن فقد مالت كفة الميزان، صار العالم أعرج، ولم يعد من دم فائض، لقد تناقصت الحياة، وتضاءلت الأجساد، وخفت الكائنات وربما تلاشت الأرواح، وأنت في هذا المشهد الخرافي، وهذا المنام المحموم، تحتكم إلى واقع كابوسي، ما عاد يلبي ما تطلبه، ولا حتى أقل القليل، كل وراء يسير إلى الوراء، وكل أمام أيضا، وأنت تعبر هاوية إثر هاوية. متعللا بأنك ستصل إلى الأرض أو الموت، فلا تجد أرضا، ورغبة الموت العارمة التي تشتهي، والتي هي الحق الوحيد المتبقي لك. تتناءى وتبتعد.. وتذهب في جاذبية الغياب. وتغيب إلى درجة الغيبوية. وتتذكر، كأنك وحدك كنت حاضرا، يوم انهار كل شيء الواقع، والأحلام، والحب، حتى الحب لم يعد لك منه أي شيء ولا لقية، ولا بقيا، كل أشواقك استحالت سرابا. ومن أحببت قضى في أزمنة الغياب، ومرور الأعوام والعمر الهارب إلى سواه، ولم تكن تخطط لشيء إلا وفشل التخطيط والشيء الذي خططت له، فكيف تعيش؟ هو السؤال الجوهري، الذي لم تسأله في يوم من الأيام، والآن تتواجه معه دون مسافة أو صدوع أو انشقاقات، وتحترب معه وفيه، وتعدد مآثرك العتيقة، وتضرب كفا بكف. محاولة القبض على الفراغ، لكنك تنتبه مذعورا إلى أن الفراغ هو الذي يقبضك، والخواء يحيلك إلى روائح العدم والغبار، وتنفض الغبار عن جثتك المستباحة، كأنك تنفض غسق المساء، ودم الأفق الغارب الممزوج بالبحر، ولا تخلص إلى الفضاء، ولا يزداد الهواء أوكسجينا في رئتيك، وتتنفس صعوباتك الجمة، تتنفس عيشك الممعن في المهانة والفساد. إذن على صورة الحياة يجيء الموت، وأنت واهم هنا وهناك، أنت لا تموت ولا تحيا، سوى في الرماد، بينما بقايا سخونة الجمر في قلبك لم تعد صالحة كي تدفع صقيع العظام، هكذا في الشعر والنثر، في الصمت والصوت والصدى، هكذا فيك، ولم يكن لك ما لغيرك. وإذا كان الفضاء قاربا لك، وقريبك. فمن أي نسل أتيت؟ وهل كنت غريبا قبيل أن يحل عليك فصل الغرابة، في هذه الجغرافيا الرجيمة، التي تدنس فيها التاريخ، وانهدرت دماء شعوبها، وذهبت الحياة فيها سدى، أم أن طبيعة الفقد التي تعاني، تحتم لقاءك بظلك المتلبس في المرايا ،والماورائيات التي تؤمن بها وتوسوس خلافها في ليلك المؤرق الطويل، حين يفتح النعاس توابيته في جسدك، ويقيم طقوس جنائزه المستحيلة في عينيك، ويسترحمك كي لا تنام، فلا تستجيب، لا ترحم روحك ولا تنام. أنت تفترض النوم النائم، تحاوره وتداوره، وتدخل حلباته، أو تتلطى في ملكوته، لكن دون تأثير الأفلاك، ودون فاعلية الأرض والزمان، لقد سرقك أحدهم نومك، وأنت ما كنت تريد شيئا، فقط كنت تريد أن تنام.