للبحر فيء آخر

لا أعلم منذ متى وأنا مسمر فوق جدران هذه المحطات.. هل تتذكرون؟ إنه ذات يوم.. كان الوقت صباحا.. ظهرا عصرا.. أول المساء.. آخر الليل؟! لم اعد أتذكر منذ متى وأنا خارج مملكة الحضور؟ داخل متاهات اليباس .. ما بين الوردة وقلبي يسكن الانتظار.. هي ملظة المطر تغسل شرفات الغياب، وأبقى مسمرا.. أفيء إلى ظلك .. أمد لغزالة الشواطئ أصابع دمي.. فتهرب مع قطيع الموج.. أهرول خلف ذلك الأفق الحجري.. هيهات؟! متى صار الفجر حجرا؟ كيف بدا لك جامدا كالقبور؟! وتعود من غربتك.. تستظل بغربتك، ريثما تذوي كوردة أو كبلاد مشتتة فوق خرائط الخريف. وتعود من ظلمتك سنونوة تبني ما كان عشا أو سفينة تخبئ روحك لتوصلها إلى مرافئ الضوء والمطر. تسكنك طيور السراب، رجع يقبض عنق الحمام المستوطن شرايين دمك، يلوي روحه،، فتتراءى لعيونه قطرات تمر .. وجوه توضب كالحقائب في آخر العربات.. تنده عليها .. وتبتعد .. تفر كالغيم.. تصيح لهم.. يتفرقون.. يتركون خطاهم ويبتعدون، يخلفون لك مزقا من صراخهم، يعلقونك فوق مشاجب الريح.. كالملح يذوبون في عتمات المحطات، وتبقى مسمرا يتمزق صوتك: قفوا ندع لك الدروب، وبقية السيوف أمنحكم حدائق القلب. لك الرمل، وأسراب القوافل. أعيدوا إلي الجرار. خذ دالية روحك. ما جدوى أن تعود لي الدالية، وتأخذون تراب الروح؟! قفوا.. يكفيك زوبعة الصوت. وينتشر صدى الظل في سماء الجسد.. مازلت مسمرا على جدران السفينة .. يشب السراب، تأكل الصحراء صوتها، ويسافر القطا.. للبحر فيء آخر.. قامة الوجه مكسرة الأطراف.. ندهت عليهم: قفوا مضوا خلف الخريف.. لم يعد لظلالهم صوت.. خطف الصدأ مني كتاب المواعيد، وكان أول الصاعدين جبل الرماد. مسمر على جدار السفينة، أنتظر رجوع النوارس.. لم تعد النوارس.. جاء القطا.. قريبا يألف الملوحة والقراصنة.. يصير صديق الزبد وكلاب البحر.. يطبق المساء علينا.. يسكن تلال أرواحنا.. يفتح لنا مضاربه.. سنجيد نصب خيامنا.. هناك سندق أوتاد أعمارنا في الزبد.. قفوا.. أريد وجوهكم لا الظلال.. ويفرون.. يصل الصوت كليلا- سيضحو البحر شجرة. سيمر عليه الخريف، ويطيل البقاء، ربما لن يكون ضيفا.. سيصير منا، وسيصحو فيء البحر ممزقا.. لن يظلنا في الهجير القادم. ثانية.. ورابعة.. وألف .. ندهت أثمال زرقتهم التي عشقتها في زمن الطفولة.. وكان صوت ظلالهم يبتعد.. لم يعد في الحديقة شجر نفيء إليه.. وحيدا على جدار السفينة منفردا من أول العمر.. صلبني القطا.. ضيعت ملامحي في مملكة الغياب.. وصار الغياب شجرة وارفة قريبا يتفتح زهرها.. قريبا نحطم قصائدنا، ونضرم فيها النار لندفئ أرواحنا الباردة. وتبقى مسمرا على جدار غربتك.. يعلو الصدأ أصابع السفن.. ربما لن يكون للبحر خيار أن يرفع رأسه متى شاء؟! ربما لن يألف القطا واحة البحر بعد أن يحل المساء؟! ربما؟