مناجاة

يا.. يقترب موعد مجيئك، فأنشغل عن كل شيء إلا منك، وابدأ طقسي المسائي لاستقبالك، أخرج إلى الشرفة وأقف منتظرة. أستنفر كل حواسي حتى لا تفاجئني كما تفعل دائما، انظر إلى الشارع الرئيسي والشوارع الفرعية، لأرى من أين تأتي عربتك مطهمة الجياد. أومئ بيدي إلى الشارع، أمارس نوعا من السحر، فتختفي السيارات وينقطع سبيل العابرين، حتى العصافير تكف عن الشدو وتنزوي في أعشاشها. هو ذا الشارع هادئ كما تحب. ليس فيه الآن إلا الأشجار اصطفت على الجانبين كحرس شرف يقف متأهبا لاستقبالك، ألغي كل حواسي إلا حاسة النظر، لأنتصر عليك ولو مرة واحدة، واعرف من أين تأتي وأي سبيل تسلك، ولا ادري كيف يحدث الشيء نفسه كل مرة. ربما تمارس أنت أيضا نوع من السحر. ودون أن أشرد لحظة ترف عيني، أجدك فجأة إلى جانبي. أستغرب كيف ومتى وصلت. تطل من عيني نظرة تساؤل، فتبتسم وتجيبني دون أن تتكلم، هكذا أنا دائما، آتي دون ضجيج، خيولي لا تصهل، وحوافرها لنا تمس الأرض. لا تحاولي أن تعرفي كيف أجيء وأي طريق أسلك. المهم أن آتي في موعدي ولا أتخلف. تغمرني راحة عجيبة وأنت تلفني بعباءتك، يتحلل تعب النهار، يذوب وأحسه يقطر من أطراف أصابعي. وعندما تمسح بيديك على رأسي تنزاح الكآبة عن روحي، وأمسي خفيفة، خفيفة حتى لتكاد أية نسمة قادرة أن تحملني على متنها. أعرف أن كثيرين غيري يحبونك، ولكن، عندما تأتي أشعر أنني أمتلكك وحدي، إنك في هذه اللحظات لا تستمع لأحد سواي، ? ان كلماتي وحدها تتسلل إلى قلبك، فيحتضنها ويضيق عما سواها. في خلواتنا، أقول لك ما لا أقوله للآخرين، ويعجبني فيك أنك رغم ثرثرتي التي لا نهاية لها، صامت أبدا، مستمع دائما في زمن ندر فيه الصامتون والمستمعون، أعرف أنني أكرر عليك أحلامي التي ما تحقق إلا جزء يسير منها، وأذكرك بخيباتي التي هي أكثر من أن تحصى، فيشف لي وجهك عن ابتسامة وكأنك تقول: إنها الحياة، آمال وخيبات، فلماذا تستغربين؟ نتابع السهرة معا، أنا أتحدث وأنت تصغي، وبيني وبين نفسي أشفق على قلبك الكبير الذي يستوعب كل هذا الهذر. يداهمني النعاس، فأتحايل عليه بفنجان قهوة، أخشى إن أغمضت عيني أن افقدك، لماذا ينتصر النوم دائما؟ لماذا يثقل أجفاني واستسلم له؟ بين الصحوة والنوم أراك تتسلل مبتعدا، تفلت أصابعي أطراف عباءتك، بهدوء تمضي كما بهدوء تجيء. تلتقي نظراتنا، غدا في الموعد نفسه آتي فلا تقلقي. ياه ! أرأيت ؟ لقد شردت أفكاري، فلم أر من أي طريق جاءت عربتك وكيف صرت إلى جانبي. لن أسألك المهم أنك جئت لنبدأ سهرتنا. أيها الليل، يا صديقي العزيز، أصلا.