المطبخ الإيراني: تعادل التذوق وفأل النظافة

أرأيت لو سئلت أي امرأة في العالم عن أنظف بقعة في منزلها فما عساها أن تقول؟ إن الإجابة عن مثل هذه المباغتة في السؤال ستولد عندها حيرة وترددا ولو للحظات..! إلا في إيران، فالمرأة الإيرانية لن تتردد وما أسرع أن تجيب.. إنه المطبخ . فهي شغوفة منذ نعومة أظفارها بتنظيف المطبخ وتطهيره وتلميعه لحدود المبالغة. إن مفهوم النظافة في المطبخ الإيراني وحين إعداد الطعام يرتبط في حس المرأة الإيرانية بطقوس خاصة وهاجس جميل وهو تفرد فيه غرابة لمن يراه لأول مرة. فلا تبدأ عملية الطبخ، والإعداد له إلا بعد تكنيس المطبخ وتبخيره .. ومن المطبخ تدور المرأة بالمبخرة إلى بقية أرجاء المنزل وغرفه، وإذا ما تم ذلك عادت إلى المطبخ وشرعت في الطبخ. والإيرانية لا تمل إعادة هذا الأمر وتكراره مرات ومرات مادامت تطبخ. وإن كانت إيران دولة ذات طقس متباين فلا عجب أن يؤثر هذا على نوع الغذاء الذي يتناوله كل أقليم فيها. فمن الجنوب حيث خوزستان تجد الطبق المميز هناك هو العدس بلوا (أي أرز بالعدس) وإن اتجهت شرقا حيث بلوشستان تجد طعام الصحراء قليل اللحم كثير التوابل (لتأثرهم بباكستان)، أو ارتفعت منها شمالا حيث نيسابور وأعلاها خراسان فتتلذذ بكل فاكهة صيفية، أو توسطت شمال البلاد حيث جورجان (جنوب بحر قزوين) ذات الأمطار الدائمة وأجواء الغابات الجميلة فلا تتردد في القول بأن هؤلاء القوم أكثر أقوام الأرض قاطبة حبا للثوم، فهم يأكلونه نيئا ومطبوخا بل ويخلل، وربما يضاف لأي أكل بارد. ويمتاز شمال إيران عموما بكثرة الفواكه والخضار وبخاصة الفول الأخضر الذي يتفرد بأكثر من فن وطريقة في إعداده وطبخه، وفي الشمال يقل استهلاك اللحوم الحمراء لحدود الندرة، ويكثر تناول الأسماك والطيور. ورغم هذا التباين الذي يفرضه الطقس على المائدة الإيرانية إلا أنها تتفق وترتبط بأكثر من أمر. فالإيرانيون شغوفون بالزعفران، وهو يضاف إلى أكثر أطباقهم المشهورة، وهم لا يميلون لاستخدام البهارات في طعامهم؛ لأن من الأمور التي توارثوها أن فن إعداد الأطباق يكمن في إبراز نكهة الطعام الحقيقية لا تغطيتها بالبهارات الحارة، وهذا ما يعطي انطباعا عند من تذوق الأطباق الإيرانية بأنه تناول لذة ما ذاقها من قبل. وهذا لا يعني أنهم قد يضطرون أحيانا إلى إضافة شيء من الهيل، أو القرفة، أو الفلفل الأسود لبعض المأكولات دون مبالغة. وإن لم ينته بك العجب من المطبخ الإيراني لهذه الحدود فلك أن تعجب بتفرد آخر لهذا المطبخ وهذا التفرد هو ارتباط المأكولات بحكمة فلاسفة وأطباء المشرق القديمة، والتي كان أول ظهورها من بلاد فارس. وفحوى هذه الحكمة أن ما يأكله الإنسان يصنف إلى نوعين: مأكولات ذات طابع سوداوي أو حار، وأخرى ذات طابع بارد. وتقول الحكمة إن راحة المعدة تكون في توازن الطابعين. وعلى فلسفة هذه الحكمة يتم تعامل الإيراني مع طعامه. وتعلم أجيال البنات والنساء الإيرانيات فحوى هذه الفلسفة منذ تعليمهن فنون الطبخ وتحمل مسؤولية الأسرة، ويغرس في نفس البنت هذا الفأل والوسطية الجميلة. وإن كان هذا هو الأمر فلا تظن أن ما يقدم على المائدة الإيرانية من أصناف الطعام أمرا عشوائيا أو ارتجالا لحظيا. وإن كانت الأمور تتضح بالأمثلة فإن إضا فة ملح الطعام إلى الباذنجان الذي يصنف بأنه ذو طابع سوداوي، ثم إضافة لبن الزبادي ذي الطابع البارد لأول الأمثلة على ذلك. ومن الأمثلة الأخرى إضافة الجزر (حار الطبع) إلى الخس والخيار والطماطم (باردة الطباع) عند إعداد السلطة الخضراء، أو إضافة عصير الرمان (بارد الطبع) إلى الجوز وبقية المكسرات، واللحم (حارة الطبع) عند إعداد طبق الفسنجان. وبما أن الفول الأخضر يعتبر بارد الطبع فإنه يضاف الشبت (حار الطبع) إلى الأرز الممزوج بالفول الأخضر عند إعداد طبق (باقلي لو). ومن ذلك أيضا إضافة النعناع الجاف حار الطبع إلى لبن الزبادي والخيار (باردي الطبع) ليصبح المزيج متعادلا. إن هذا الحس أصبح سلوكا غذائيا لدى الإيراني. فإذا ما أحببت خوض تجربة أخذ أسرتك لمطعم إيراني ووقع خياركم على طبق من السمك المشوي وطلبت معه حساء العدس، فلا تظن أن الجرسون فيه لقافه وتدخل في شؤونك إذا ما اقترح عليك استبدال شوربة الدجاج بشوربة العدس، فهو إن شئت أن تسميه مبرمجا على أن السمك والعدس باردي الطبع. والدجاج حار الطبع. وفي حالة عدم اقتناعك باقتراحه فلا تعجب إن أحضر لك قطعا من الحلوى مجانا قبل مغادرتكم المطعم. إنها قناعة عند المطعم بأنك لن تشعر بثقل طعامه ولن تشتكي حموضة أو عسر هضم، فهو قد عادل طعامك. فهل صدق؟ وخروجا من هذه الفلسفة (التي تقطع بصحتها أو رفضها التجربة) يمكن الإشارة هنا إلى أن المائدة الإيرانية تشتهر بالمشويات التي تتميز بإعداد خاص بها، المضاف إليه الزعفران وزيت الزيتون والليمون الطازج وشيء من الملح، أما إعداد هذه المشويات فهو قد يكون بصورة قطع من لحم الضأن (فيليه) أو على هيئة كباب الكوبيدة (الكفتة).