تقنية و أشرار - أمراض و أدوية

المقدمة التالية مكررة في هذه السلسلة  لتأكيد أهمية دافع التطور التقني- "التقنية هي عامل مهم للدفع و التطويرالحضاري و الثقافي و يوجد الكثير من الأدلة الشاهدة على ذلك، ولكن هذا لا يمنع أيضا أن تكون في يد الأشرار لمحاولة استغلالها شر استغلال، فهي في النهاية أدوات مثلها مثل الكثير من الأدوات التي تستعمل للخير و الشر. السطور التالية تحاول إلقاء الضوء على جانب مظلم من التقنية للتعريف و التوعية. "

في القرن الرابع عشر انتشر وباء الطاعون الأسود وخلال عدة سنوات قضى على ملايين البشر و تذكر بعض الإحصائيات أن ما يقارب من ربع سكان الأرض المعروفة في ذلك الزمن قضوا نحبهم في هذا الطاعون المميت الذي حير الناس وأخافهم و أربكهم في تلك الفترة. 

قفز التطور العلمي و الطبي قفزات كبيرة جعل من الصعب جدا أن يتكرر ما حدث في ذلك التاريخ و لكن مع هذا التطور ظهرت أوبئة و أمراض جديدة مقاومة للأدوية أو مصنعة مخبريا و أصبح التنقل أسرع بمئات الأضعاف.  من الممكن أن ينتقل شخص من وسط القارة الأوروبية إلى وسط أمريكا بالطائرة خلال ساعات بدل أشهر من السفر. هذا التنقل السريع جعل الأمراض و الجراثيم تنتقل بسهولة و سرعة أيضا و ما فيروسات انفلونزا الطيور و الخنازير ببعيدة. 

بعد المقدمة أعلاه تخيل ،عزيزي القارئ ، أنه يوجد أمامك شاشة كبيرة عليها خريطة العالم و موصلة بجهاز كمبيوتر ضخم يحلل جميع ما يبحث عنه ملاييين (أو مليارات) البشر المتصلين بالانترنت بشكل مباشر حول العالم. و تخيل أن من ضمن فئات النتائج التي تظهر أمامك ،على تلك الشاشة، فئة خاصة بالبحث عن أعراض مرض معين أو بحث عن دواء معين مع الإشارة عن موقع البحث الجغرافي. 

ماذا تستنتج إذا لاحظت ارتفاع في حركة البحث عن أعراض السعال أو أدوية السعال لمئات أو ألاف الاستفسارات البحثية في مدينة معينة؟ و ماذا تستنتج إذا بدأت حركة البحث بالانتشار من تلك المدينة الى مدينة أو مدن أخرى مرتبطة بمطارات أو وسائل مواصلات سريعة مع بعضها البعض و بدأت كثافة البحث تغطي تلك المدن بدوائر حمراء أو صفراء؟  ماذا إن كانت الأعراض أخطر من السعال و بدأ زحف ذلك المرض يغطي جزءا من مدينتك التي أنت بها؟ ربما تخبر أهلك بالتجهز للسفر و تختار وجهة بعيدة عن  هذا الزحف أو تتخذ بعض الاجراءات المختلفة لحماية نفسك و من تحب. 

دعني أخبرك أن ما ذكر أعلاه هو ليس بالخيال أبدا بل هو حقيقة و مطبق عملياً عند عدد من محركات البحث الضخمة.  منذ بضع سنوات أجرى أحد محركات البحث الشهيرة تجربة مثيرة للاهتمام وهي مقارنة نتائج بحث معينة عن أعراض أمراض و بحث عن أدوية و قارنها بما تجمعه منظمة الصحة العالمية من تقارير عن انتشار هذه الأمراض في نفس الفترة الزمنية و كان التطابق في النتائج قريبا جدا و مثيرا للدهشة . 

الفرق الرئيسي حاليا هو أن هذه المراقبة من محركات البحث يمكن أن تجري في ثواني أو في وقت حقيقي مباشر بينما منظمة الصحة العالمية تحتاج لأيام أو أسابيع لجمع هذه المعلومات من المستشفيات و الأطباء و تحليلها. 

هذه المعلومات يمكن الاستفادة منها بشكل كبير و على مستويات عديدة منها حكومية و منها تجارية و النقطة الخطيرة هنا هي عند حصول استغلال تجاري. ماذا لو تم احتكار هذه المعلومات من قبل بعض شركات الأدوية و أصبحت تعرف من المصاب بأي مرض وكم عدد المصابين و في أي منطقة و ما الأدوية التي يجري البحث عنها و تحكمت بالسعر قبل الأخرين؟ 

ليس فقط كلمات البحث التي يكتبها الناس بل من المؤشرات الإضافية المهمة ما يتابعه الشخص المريض من مجموعات و صفحات و تعليقات تهتم  او تدل على أمراض معينة و يمكن لشركات الأدوية متابعة تلك الصفحات و الانضمام لتلك المجموعات و تحليل البيانات التي بها و استهداف الأعضاء و المعلقين. 

من جانب أخر وللتنبيه على أهمية المعلومات الطبية فإنه عند حصول اختراقات لمشافي او مراكز تحوي بيانات صحية فإن هذه البيانات تباع في أسواق الشبكة المظلمة الخفية بأعلى الأسعار لأسباب كثيرة منها معلومات التأمين الخاص بك مثلا والتي يمكن استخدامها للتحايل على شركات التأمين و دفع وصفات طبية معينة بل و يمكن استخدام معلوماتك للحصول على بعض الأدوية المخدرة إن كانت مسموحة لك لعلاج مرض معين وغير مسموحة للمخترق أو من دفع ثمن هذه البيانات.

الجدير بالذكر هنا أنه ،وفي محاولة لحماية الأمن الصحي و البيانات الشخصية، بعض الدول المتقدمة تمنع تخزين أي بيانات طبية شخصية خارج حدود البلد. تخزين هذه البيانات و نقلها حتى داخل البلد يتطلب إجراءات و احتياطات مشددة في أغلب الأوقات. 

ماذا لو عرفت الشركة التي تعمل بها ،أو تريد العمل بها، او شركة التأمين معلومات وراثية أو طبية تراكمية عنك و عرفت أنك قد تتعرض لأمراض مكلفة؟ أو أنه يوجد لديك احتمالات أعلى لأمراض معينة عند الوصول لسن معين؟ 

في بعض نتائج الدراسات الأمنية فإن أكثر الاختراقات تكلفة هي اختراقات البيانات الصحية و خسائرها تصل لمليارات الدولارات سنويا. 


 من المعلومات الطريفة أنه يوجد مراكز صحية و مستشفيات أو صيدليات تستخدم رمز عصا أو صولجان هرمس وهي عصا يلتف حولها ثعبانين و فوقهما جناحان  و هذا بالتالي يرمز لعطارد (ميركوري) حامي التجار و المقامرين و اللصوص بينما الرمز الحقيقي للشفاء هو عصا أسكليبيوس و هي عصا يلتف حولها ثعبان واحد و هي الرمز الاغريقي الحقيقي للطب و الشفاء. 

في هذا العالم الكثير من الدول و المناطق المتخلفة و حتى المتقدمة التي يطغى فيها التفكير المادي على المبادئ الإنسانية و يكون الربح للشركات أهم من أرواح الناس و مشاعرها. الوعي بالأمور التي ذكرت أعلاه قد يعطي بعض الدوافع والأفكار ، سواء للشخص العادي أو من هو في موقع متحكم بالمعلومات ونشرها، لجعل العالم مكان أفضل للأجيال القادمة. 

بقلم: محمود جسري