التدرج في الدعوة .. أساس يغفل عنه الكثيرون

الدعوة إلى الله جل وعلا من أجل القربات وأفضل الطاعات، وهي من سمات المؤمن الصادق مع ربه، الحريص على دينه، الواثق بنصر هذا الدين، الراغب في الفوز بجنان الآخرة، إنها طريقة الأنبياء والرسل قبلنا، ومن تتبع القرآن الكريم وجد فيه من الآيات الدالة على ذلك ما لا يعد ولا يحصى، وهل بعث الأنبياء والرسل إلا من أجل الدعوة إلى الله جل وعلا، وهي كذلك دأب الصالحين، كيف لا، وهي وصية الله للمؤمنين، واسمع لقول الله جل وعلا وهو يقول ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون إذا هي طريق الفلاح والفوز في الآخرة. خير لك من حمر النعم ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم يبين عظم الدعوة إلى الله جل وعلا بقوله لعلي رضي الله عنه حين أعطاه الراية يوم خيبر ... لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم فيا سبحان الله، هداية رجل واحد خير للداعية من امتلاك أفضل وأغلى أنواع الإبل، ذلك أن الأجر المترتب عليها يحصل عليه في الآخرة دار القرار والخلود، أما حمر النعم فهو مال زائل في دينا فانية. إن الدعوة إلى الله جل وعلا هي من أفضل الأقوال التي يثاب عليها المرء المسلم المخلص ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين وقد زاد النبي صلى الله عليه وسلم فضل الدعوة إلى الله جل وعلا وضوحا بقوله من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئا رواه مسلم . الأساليب والطرق ودورها في الدعوة وإذا كانت الدعوة إلى الله جل وعلا بهذه المنزلة الرفيعة، فإن هناك أساليب وطرقا ينبغي سلوكها حتى يكون لهذه الدعوة أثر طيب ومحمود، وقبول لدى الناس. إن كثيرا من الناس اليوم شغلوا وفتنوا بالحياة الدنيا وبالحضارة والماديات وابتعدوا كثيرا عن منهج الله جل وعلا. وكثير منهم لا يعرف عن الإسلام شيئا، بل بعضهم لا يعرف عنه إلا أنه سبب للشر كما يصوره الإعلام الغربي الذي يسعى لتشويه صورة المسلمين باستمرار. ولذا كانت مهمة الدعوة إلى الله جل وعلا تجاه هذه الأوساط مهمة صعبة وشاقة، لكنها يسيرة على من يسرها الله عليه. الناس لا يهتدون دفعة واحدة ومن الأمور التي ينبغي على الداعية مراعاتها، في الدعوة إلى الله هي مسألة التدرج في الدعوة إلى الله جل وعلا، والتي يجهلها كثير من الشباب المتحمس إلى الدعوة، والذي يريد من خلال حماسه استجابة الناس كلهم لدعوته دون تردد، وأن يعملوا بكل أحكام الشريعة من أول وهلة، معتقدا أن عدم تطبيق ذلك ما هو إلا انحراف عن الطريق الصحيح في الدعوة إلى الله، ودليل على عدم التمسك بالدين، ناسيا أن تحول الإنسان من أمر شب عليه ومعتقدات ترسخت في قلبه ليس بالأمر السهل اليسير، وكم أخطأ كثير من الشباب المتحمسين للدعوة إلى الله والذين يرغبون فيما عنده من أجر وثواب، عندما ظنوا أن الدعوة إلى الله لا تكون إلا بعرض الشريعة الإسلامية كلها دفعة واحدة على المدعو دون مراعاة لحاله ودون اعتبار لتقديم بعض الأمور على بعض، ظنا منهم أن ذلك هو الطريق الصحيح والنهج القويم في الدعوة، فخسر بذلك أناسا كثيرين وتضررت دعوته بسبب ذلك أكثر مما انتفعت، وقد كان له في التدرج في الدعوة خيرا عظيما لو علم. التدرج في الدعوة منهج النبي صلى الله عليه وسلم ومسألة التدرج في الدعوة مسألة راعاها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته لقومه، ومن تتبع سيرته وسيرة الأنبياء قبله لوجد هذا الأمر واضحا بينا، فانظر مثلا إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة ولمدة ثلاث عشرة سنة، لقد كان طوال هذه المدة يدعو إلى شيء واحد وهو عبادة الله وحده وترك الأصنام والأوثان التي كانت تعبد من دون الله، ولذا فإنه في أثناء هذه الفترة لم يتعرض إلى قضية الأحكام الشرعية في مناقشاته مع قومه ودعوتهم إليه إذ الأمر لم يكن يحتمل ذلك. التدرج في الدعوة هو مسلك القرآن الكريم المتتبع لنصوص القرآن الكريم يجد فيها أيضا مراعاة لهذا الأمر الجليل، فانظر مثلا قضية تحريم الخمر، لقد نزلت على أربع مراحل، فلم ينزل تحريمها دفعة واحدة، فأول ما بدئ بذلك هو الإشارة إليها في قوله تعالى ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ... فهذا مجرد إشارة سريعة إلى استخدام الناس لما أنعم الله عليهم به من ثمرات النخيل والأعناب، ثم بعد ذلك نزل قوله تعالى يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما فهو يبين في هذه الآية أن الخمر وإن كان فيها منافع، إلا أن هذه ا لمنافع لا تقارن بالمضار والآثام المترتبة عليها. فهو بداية لتنبيه الناس إلى ما في الخمر من مفاسد عظيمة وآثام، وإن كان فيها منافع يسيرة، ثم بعد ذلك منع المسلمون من الصلاة عند شربهم للخمر وبالتالي لم يعودوا يستطيعون شربها في كل وقت لوجود الصلوات الخمس وغيرها، يقول سبحانه يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ... فلما تأهل الناس لتحريم الخمر، وذكروا بما فيها من مضار عند ذلك جاء الأمر صراحة بتحريم الخمر وعدم استعمالها، فقال سبحانه يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون فكان التحريم القاطع لاستخدام الخمر وشربها. هذا التدرج في الدعوة هو الذي يجعل كثيرا من الناس يقبلون على هذا الدين، ويتمسكون به، إذ ليس من المعقول أن تأتي لشخص لا يؤمن بالدين الإسلامي، ثم تبدأ بتحديثه عن الإيمان بالله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والتمسك بالأخلاق الفاضلة والصدقة والبر والإحسان والبعد عن المحرمات بأنواعها، وتفصل له كل أحكام الدين الإسلامي، ثم تريده أن يلتزم بكل هذه الأمور سريعا ليكون مسلما حقا. أنى يكون ذلك!! وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في التدرج ونظرا لأهمية التدرج في الدعوة إلى الله وأثرها في استجابة كثير من الناس كان ذلك من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أدرك أهمية هذا الأمر فجعله دستورا لأمته وللدعاة جميعا في كل زمان ومكان، كيف لا وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. ويتضح هذا الأمر جليا في حديث معاذ بن جبل لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن ليدعوهم إلى الله جل وعلا وإلى الإسلام، هذا الحديث الذي رواه الجماعة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه لليمن إنك ستأتي قوما من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب فانظر كيف وجه النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى التدرج في الدعوة وعدم التسرع في عرض كل ما في الإسلام دفعة واحدة وإنما يبدأ فيه بالأساس أولا ثم ينتقل إلى ما بعده حين استجابتهم، وكلما استجابوا لأمر كلما عرض عليهم ما بعده. أول ما يبدأ به في الدعوة إلى الله واعلم أن أهم ما يبدأ فيه بالدعوة إلى الله جل وعلا هو ما بدأ به رسل الله جميعا، وما نبه إليه القرآن وهو الدعوة إلى التوحيد وإلى إفراد الله بالعبادة، وتحقيق معنى لا إله إلا الله، فإذا استطعت أن تكسب المدعو إلى تحقيق هذه الأمور السابقة، فاعلم أن ما سيكون بعد ذلك سهلا ويسيرا، ذلك أن الإنسان إذا استشعر معنى العبودية لله، وتعرف على عظمة الخالق جل شأنه، دعاه ذلك إلى التمسك بهذا الدين والإقبال عليه ومعرفة أحكامه وشرائعه. ثم بعد ذلك تأتي أركان الإسلام والتي لا يقوم إلا بها من صلاة وزكاة وصيام وحج. وهكذا يستطيع الداعية شيئا فشيئا أن يوضح للمدعو أحكام الشريعة الإسلامية دون تنفير أو تعقيد، ذلك أن تعلق القلب بربه أولا واستشعاره عظمته وغرس الخوف والخشية منه والرجاء فيما عنده، مما يدفع المدعو إلى الاستجابة لأحكام الشريعة الإسلامية بكل تفاصيلها، وبدون ذلك لا يمكن للإنسان أن يضحي بشهواته وملذاته التي اعتاد عليها من أجل أمر لم يترسخ في قلبه ولم يستقر في نفسه.