طيبون في الحياة

جاءني ابني يزف إلي البشرى تنطق بها قسمات وجهه ويرقص لها قلبه الصغير طربا. - إني أحرزت مائة في الإملاء العربي. - عافاك. - ولكني يا أبي رفضت هذه العلامة. - ولماذا يا بني؟ - لم أستحق المائة، كتبت كلمة تدل فوضعت الشدة فوق حرف التاء فيها بدلا من اللام. لم تنتبه المعلمة لهذه الغلطة، فأعطتني مائة، ولكن حين نبهتها إلى خطئها أعطتني95. صحت به صارخا: ولماذا تخبرها أيها الساذج. فنظر ابني إلي في تعجب وقال: لماذا أخبرها؟ وهل يجوز ألا أخبرها، لقد أخطأت في الإملاء ولا أستحق هذه العلامة. قلت: ولكن غلطة بسيطة ليست بذات أهمية. قال: بل هي مهمة، والتغاضي عنها خطأ عظيم، لقد ربتت المعلمة على كتفي، وهنأتني لاستقامتي، ثم وقفت بين التلاميذ تعطيهم درسا في الصدق والأمانة. حدقت بابني طويلا وضممته إلى صدري، أيعطيني هذا الصغير درسا في الصدق والاستقامة؟! إنه ليأبى أن يتغاضى عن غلطة اقترفها بنفسه حتى ولو أدت إلى نقص في علامته حفاظا منه على إخلاصه لنفسه، أيبقى هذا الولد الصادق صادقا مدى الحياة في عصر تضاءلت فيه القيم وعشش في حناياه النفاق، استعدت موقفي مع ابني حين قرعته لأنه أبلغ معلمته، فلمست الفرق البعيد والبعد الشاسع بيني وبينه، إنه يريد أن يكون صريحا مستقيما، وأبوه ينحى باللائمة عليه. استعدت في مخيلتي أيام الطفولة يوم كنت صبيا مثله، كنت أربأ بنفسي أن أرسب في درس من الدروس حتى ولو أدى ذلك إلى النقل والغش واللفلفة، خجلت من نفسي، لقد وجدتني صغيرا أمام هذه النية الصادقة الكاملة في نفس هذا الصغير، وتضاءلت إزاءه بقدر ما افتخرت به واعتززت، واستدرت إلى الحياة أتأملها، مواكب الشر ترفل زاهية باهية، وتنتشر في جميع المرافق، مئات بل ألوف الناس قد قبعوا في السرر العالية الجميع يعرفونهم منافقين لصوصا كاذبين، ولكن يتملقونهم ويتقربون إليهم، عقارب يلدغون في الخفاء، وذئاب كاسرة يطيحون بالناس على جانبي الطريق، يزيحونهم عن مسالكهم يمتصون دماءهم، أو ينثرونهم في الهواء لتحقيق مآربهم الشخصية والوصول إلى مصالحهم ومطامعهم، الناس يقتتلون في سبيل لقمة العيش ويستميتون لأجل المنفعة الخاصة، وهذا الساذج المسكين يأبى أن يتقاضى خمس درجات زيادة عما يستحق لأنه قد ارتكب خطأ في الإملاء. تمثلت أمام عيني قضية أحد الموظفين الذين أعمل معهم في المؤسسة نفسها، أنا أعرفه كما يعرفه جميع من في المؤسسة، شاب مجتهد نشيط ولكن مسؤولياته العائلية كثيرة وكبيرة جدا، إنه منغمر في الديون، ويكاد لا يجد وسيلة يستطيع بها أن يجعل مسؤولياته البيتية تتجاوب مع دخله. سألني ذات يوم أن أسلفه بعض المال ليؤدي حاجة ضرورية لعائلته وخاب فأله، فركب إحدى سيارات الأجرة ذاهبا إلى بيته حزينا كئيبا، لم يكن في السيارة أحد سواه غير السائق وراء المقود، وصدفة ارتطمت قدمه بشيء، تفقده وإذا به محفظة عامرة بالمال، فأوقف السائق وقفز من السيارة والمحفظة في يده ثم هرول راكضا إلى مركز الشرطة يسلمها المفقود. جاءني في اليوم الثاني يبلغني الأمر والابتسامة ترتسم على فمه، كأنه لم يعمل شيئا، ثم ينتهي به ويسألني أن أسلفه بعض المال، عجيب أمر هؤلاء الناس الطيبين، إنهم مجانين، مجانين في نظر بعض الناس، ولكنهم نواة المواطنين الصالحين في المجتمع الصالح. مهما تغلبت عناصر الشر والأنانية على نفوس البشر فلا بد من نفوس كبيرة جبارة تصمد في وجه العاصفة، وتحول التيار في اتجاه الخير والحق. لن يستطيع صديقي أن يجعل متطلبات عائلته تتساوى مع دخله، ولكنه يكفيه فخرا أنه أعطى درسا رائعا لجميع من عرف قصته، ابتداء من السائق حتى زملائه في المكتب مرورا برجال الشرطة. إن هؤلاء الناس الطيبين قد وجدوا ليذكروا بقية الناس بالأمانة والصدق والخير في زمن تضاءلت فيه القيم الأخلاقية وندرت. لم يحرز ابني المائة في الإملاء ولكنه لم يخدع نفسه، كما أنه أدى الأمانة حقها.. إن سبب نجاح الأفراد في الحياة لا يعود إلا لأنهم أمناء مخلصون صادقون لأنفسهم ولمجتمعهم، أما أولئك الذين ينعقون بالناجحين ونحن نعرفهم مخادعين منافقين، فلابد أن تهب العاصفة يوما وتقتلعهم. مرحى يا بني ومرحى يا صديقي لم أكن أعلم أن منكم تشع هذه القيم.