جارتي عائشة

كان الأمل مجرد نقطة واهية في ظلمة عمري.. نجم بعيد أرقب تألقه الشاهب في أعماقي الحزينة، ثم لا ألوي على تصديقه فأظنه سرابا؛ هكذا مضت بي الأيام في السنين الخالية، لاأفقه من ذاتي شيئا، ولا أدرك كنه مرادي أبدا. حتى الحياة بالنسبة لي.. كانت مجرد واقع يمكن أن أقبله أو أرفضه.. فكله سيان.. كنت فقط أحيا للمتعة واللهو، لم أفكر أبدا في الموت.. أو ما سوف يترتب عليه شأني في الغد القريب أو البعيد.. بل إنني كنت أعيش وكأني سأحيا مخلدة، في مكتبتي المزركشة مئات لنجوم الطرب والفن في العالم.. قصائد معظمها مبتذل يتغنى بعضها بالحب والعشق، بينما يروي البعض الآخر الحكايات والأشعار الوقحة، وفي زاوية حجرتي الفارهة كان ثمة تلفاز كبير يبث إلي من قنواته العديدة أفلاما ومسلسلات ومشاهد لا تثير سوى أهواء النفس ولا تحرك إلا الرغبات المكبوتة.. كنت متيمة بتلك القناة التي كانت تعرض مذيعاتها بملابسهن شبه العارية بالإضافة إلى زينتهن الصارخة وتسريحاتهن التي تواكب أحدث الصيحات العالمية، لهذا.. رحت أقلدهن تقليدا أعمى لأكون جميلة- كما كنت واهمة- مثلهن، وربما ألفت الأنظار إلى دلالي.. وهيأتي المتلونة فأصبح يوما نجمة مشهورة مثلهن. في هذه الأجواء، لم يكن أبي يملك من الوقت والاهتمام ليعرف طبيعة حياتنا، فهو في سفر دائم وراء صفقات الأعمال، أما أمي فهي منشغلة عنا بالحفلات والزيارات واستقبال الصديقات اللائي كانت تستعرض أمامهن بزهو مركزنا الاجتماعي المرموق.. وآخر مقتنياتها من الجواهر والحلي والأزياء الباريسية، أمي لم تكن مكترثة أبدا لأمري وأمر أخي.. الذي كان يجلس في حجرته يحادث الفتيات عبر الهاتف لساعات طويلة.. الحقيقة أن هذه الحياة الفارغة كادت أن تدفعني إلى الجنون.. كانت تجعلني أفتش عن شيء مختلف أملأ به وقت فراغي.. شيء لا أعرف ماهيته وأين يمكن أن يكون.. المهم أن يقضي على إحساسي بأن كل ماحولي باهت وبلا معنى أو طعم. أما أعماقي.. فكان يدور في طياتها أمر مبهم لم أعه جيدا في البداية، لكني سرعان ماأعرته كل انتباهي وإدراكي.. كان ثمة صوت خفي هناك يعلو هامسا ويأمرني بالتمرد على هذه الحياة الغريبة.. صوت حزين وناقم لكنه بلاريب تملك علي إرادتي رغم أنني لم أتبين نبراته أو منبعه أو حتى ملامحه، حتى جاء ذلك اليوم الذي فوجئنا فيه بساكنين جدد للمنزل المجاور لنا.. ذلك البيت الذي بقي لسنوات طويلة دون أن يقطنه أحد.. في المساء وقفت أراقب جيراننا من وراء ستائر نافذتي الكثيفة، حيث رأيت فيهم تقاسيم بهية ومختلفة عنا تماما.. كانت وجوههم تشع بالوقار والسكينة.. وكانت نساؤهم محتشمات ومحجبات إلى حد أنني لم أتبين لون بشرتهن.. فبقيت أرقبهم وهم ينقلون أثاثهم البسيط حتى مضى جزء كبير من الليل. في الصباح أسرعت إلى نافذتي أستطلع أخبار جيراننا، فقد وجدت مايشغلني عن تلك الأسطوانات الصاخبة والقنوات الماجنة بأشخاص اكتشفت فيهم شيئا محببا وقريبا للنفس، وأثناء مغادرتي للمنزل.. لمحت ابنتهم وهي تترك منزلها برفقة أخيها الذي كانت مهمته أن يوصلها إلى المدرسة قبل أن يتوجه إلى عمله، وبعد أيام قليلة فوجئت بفتاة لاأعرفها تدنو مني في باحة المدرسة لتلقي علي بتحية الإسلام، كانت في مثل عمري تقريبا، هادئة.. وجميلة ويشع من وجهها نور أثار ذهولي.. بادرتني بأدب: - ألست أنت الأخت التي تسكن في المنزل رقم 25 قلت لها ببرود: بلى.. أنا هي. ابتسمت لي بمودة وقالت: مرحبا بك.. أنا جارتك عائشة.. قلت بغطرسة وجفاء: أهلا.. أنا جمانة.. ثم لمحت على وجهها حياء اشتعل في خديها، وكأنها كانت بصدد قول لم تدر كيف تبدؤه.. قالت بعد لحظات: - هل يمكن يا أخت جمانة أن أحدثك قليلا.. إن لم يضايقك الأمر! قلت باهتمام: تفضلي.. قالت والابتسامة مازالت تلون وجهها الفتي: - هي مجرد نصيحة يا أختي.. ولك حرية الاختيار في قبولها أو رفضها.. قلت باستياء.. لأنني لم أعتد وصاية من أحد: وماهي..؟ قالت بلطف: الحقيقة أنني لمحتك مرات عديدة تحضرين إلى المدرسة برفقة السائق بدون محرم أو مرافق.. كما أنني لاحظت أنك كنت كاشفة الوجه. سألتها بامتعاض: وماذا في ذلك.. ثم هل تتجسسين علي..؟! وجلت الفتاة وقالت بارتباك: لا.. لا ياأختي.. معاذ الله أن أفعل ذلك.. ولكني أردت أن أذكرك فقط.. قلت بحنق: بماذا؟!! قالت بهدوء وثقة: ألا تعرفين أن ماتفعلينه مخالف للشرع.. وأنه يغضب المولى سبحانه.. نظرت إلى عائشة بعد أن عصفت بي قشعريرة مباغتة: قلت لها وقد تملكني استغراب شديد: - يغضب الله.. كيف ذلك؟ قالت: إن خلو الرجل بالمرأة حرام.. وحضورك وحدك مع السائق يعتبر خلوة.. قلت وقد تضخمت دهشتي: أنا لاأفهم.. أوضحي أرجوك. ناولتني كتابا صغيرا وقالت وهي تستأذن: - أرجو أن تقرئي هذا الكتيب.. فهو سيوضح لك كل شيء.. لامس حديثها شيئا مبهما في نفسي، فسمعت همسات جديدة تخرج من قلبي، رغم امتعاضي الظاهر لتدخل زميلتي في حياتي، إلا أن راحة لا مثيل لها من قبل قد انتشرت في صدري.. راحة لم أدر من أين مبعثها وما كان سببها.. لكنها لذيذة إلى حد أنني تشوقت لمعرفة محتويات الكتاب.. في ذلك اليوم عدت إلى المنزل وأسرعت إلى حجرتي وأغلقت علي بابي، ثم أخذت أقرأ كتاب عائشة بشغف شديد.. كان يتحدث عن قصة واقعية لفتاة متحررة وقعت في وهم حب السائق الذي كان ينقلها كل يوم إلى المدرسة.. انتهت العلاقة الشيطانية بينهما بنهاية بشعة، حيث هرب السائق إلى بلاده.. تاركا الفتاة وحدها تتحمل وزر خطيئتها.. لايخلو رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما. ثم هزتني هذه الكلمات المضيئة.. كم زلزلت نفسي مثل وهج سكن عظامي.. ودمي.. وأثناء شرودي العميق بما قرأت وسمعت، كان الصوت الغامض ينبعث مجددا من داخلي.. لكنه هذه المرة كان أكثر وضوحا وجمالا.. صوت ملائكي يقول لي بحنو: أنت الآن على بداية الطريق الصحيح ياجمانة.. فلاتضيعي هذه الفرصة أبدا.