هل الإنترنت تدعم الثقافة.. والكتاب؟

كان التلفزيون قد شغل العالم، وحول معالمه بصفة جذرية خلال الستينيات من القرن العشرين. وكذلك كان الشأن بالنسبة إلى الأجهزة السمعية البصرية خلال السبعينيات. ثم جاء دور الفيديو خلال الثمانينيات. أما التسعينيات فكانت الإنترنت ووسائل الاتصال الإلكتروني بيت قصيدها إلى يومنا هذا. يرى البعض أن الثقافة في الماضي البعيد كانت من ذلك النوع الذي يغذي المجتمع. أما ثقافة اليوم فهي بمثابة نمط اتصال متقطع مفتوح للجميع، وهو ما جعل الكثير لا يولونها الأهمية التي تستحقها. وفقدت بذلك مكانتها في نفوس المواطنين عبر مختلف بلدان العالم. ويقسم هؤلاء المحللون الحقب التاريخية إلى ثلاث مراحل، أولها هي المرحلة التي كان المجتمع فيها شفهيا دون تقنيات ودون مظاهر تقدم ودون تاريخ. ثم تلتها مرحلة ظهور الكتاب بفضل ابتكار المطبعة فانفتح باب التقدم العلمي والمساواة والحرية في المجتمع. وأما المرحلة الثالثة فهي ما نشهده الآن في مجتمعنا الذي يتميز بالاتصال الإلكتروني. لكن هذا التصنيف يبدو غير سليم بالنسبة إلى خبراء تاريخ الأفكار والحضارات وعلم الاجتماع. إنهم يرون فيه خلطا بين الابتكارات العلمية والتقنية وبين تطور العادات والتقاليد الاجتماعية والسياسية. إننا لا نستطيع ـ في نظرهم ـ إبراز دور ووظيفة الكتاب والمطالعة والكتابة بهذا التصنيف. وعلى سبيل المثال يرى المختصون أن التحول من القراءة بالصوت العالي أمام الملأ (كما في عهد الإغريق وغيرهم) إلى القراءة الصامتة الفردية تحول حاسم في المجتمع وعاداته، وإذا أمعنا النظر في دور الإنترنت في مجال الفكر والثقافة فإننا نجد آراء المتتبعين متضاربة. فمنهم المتفائل والمتسائل مثل الأديب الياباني كنزبورو أوي ـ الحائز على جائزة نوبل في الآداب عام 1994م ـ الذي يطرح السؤال التالي: لماذا لا نرى اليوم كتابا تبنى مادته الفكرية على مراسلات البريد الإلكتروني؟ سيكشف لنا هذا العمل، لو تحقق، عن التغيرات التي طرأت على أسلوب الكتابة الأدبية وغيرها من جراء تغيير وسيلة الاتصال. ويعتقد أوي أن شبكة الإنترنت تبين أن بعض اللغات التي تتكلمها الأقليات عبر العالم صارت تستخدم في العديد من مواقع الإنترنت، ويرى أوي في ذلك تطورا إيجابيا مس جميع العلاقات الدولية. وفي هذا الإطار، اهتم أوي بأسلوب اليابانيين الذين يستخدمون الإنجليزية في مراسلاتهم الإلكترونية وفي الإنترنت فلاحظ أن الأمر يتعلق عموما بترجمة سريعة وسطحية من اليابانية إلى الإنجليزية. ويؤكد أوي أن ذلك سيتمخض عنه ظهور أسلوب إنجليزي خاص باليابانيين بفضل الإنترنت، والسؤال الذي يطرحه أوي في هذا المقام هو: هل سيغير ذلك أسلوب الكتابة باللغة اليابانية المطبوعة في الكتب والمجلات الأدبية والعلمية؟ أليس تغير أسلوب لغة دليلا على تحولات في الفكر والثقافة؟ أما الأديب البرتغالي خوسي ساراماغو ـ الحاصل هو الآخر على جائزة نوبل في الآداب عام 1998م ـ فيحذر من مضار الإنترنت في المجال الفكري والثقافي مؤكدا أن التقدم كان دائما في وجهين، وجه نافع ووجه ضار. ولتوضيح هذا الرأي يضرب ساراماغو مثلا بالقطار: إن كان القطار ينقل سلعا ضرورية لحياتنا أو يحملنا إلى أماكن إقامتنا فهو نافع، أما إن كان ينقل الآليات الحربية ويحمل الأبرياء للزج بهم في السجون وأماكن التعذيب فهو ضار. ذلك هو حال قطار الإنترنت، ويلح ساراماغو على أنه لا يجوز أبدا للعقل أن يتناعس في هذه الظروف حتى نتمكن من التمييز بين الضار والنافع في هذه الشبكة الجهنمية. ولا يتفق ساراماغو مع أولئك الذين يدعون أن التقانات الجديدة ستسمح لنا ببلوغ درجة عالية من الثقافة. إن تراكم المعلومات لا يجعلنا أكثر علما وأكثر ثقافة ونضجا إلا إذا قربتنا تلك المعلومات من بني جلدتنا، والمفارقة في هذا المقام ـ حسب ساراماغو ـ أن إمكانية النفوذ عن بعد إلى جميع المعلومات والوثائق التي تحتاج إليها تزيد من خطورة العزلة والابتعاد بعضنا عن بعض. ويمضي ساراماغو في تنبؤاته فيقول إننا سوف نفتقد عما قريب المكتبة التقليدية التي نطالع فيها الكتب بتصفح أوراقها ذات الرائحة المعطرة بعطر المطابع والحاملة لبصمات الأنامل البشرية التي سبقتنا إلى لمس تلك الكتب. لكن بعض الأرقام تفيد بالعكس حيث ارتفع عدد الكتب المعارة من المكتبات العمومية ارتفاعا كبيرا خلال الفترة الأخيرة. غير أن هذا الموضوع الذي طرحه ساراماغو يتعلق بجانب آخر، كثر الحديث عنه في السنوات الأخيرة وصار يشغل بال ذوي الحل والربط في المجال الثقافي ولا سيما القائمين على المكتبات العمومية، وهو أنملة الكتب أي جعلها في متناول القارئ إلكترونيا بحيث يستطيع الاطلاع عليها كاملة عبر شبكة الإنترنت. لقد كانت النقاشات والدردشات في الساحة عند أطفال المدارس أو بين الزملاء في قاعة الأساتذة أو العمل في ورشات العمل تدور معظمها حول نفس الفيلم أو نفس الحصة التلفزيونية التي شوهدت ليلا. أما الآن فهم لا يشاهدون نفس الفيلم أو الحصة أو المسلسل بسبب تعدد القنوات التلفزيونية وتعدد مواقع شبكة الإنترنت مع اختلاف مشاربها وثقافاتها واتجاهاتها. وإذا كانت كثرة الإعلام تقتل الإعلام فإن كثرة الكتب تقتل الكتاب أيضا. هذا ما يردده اليوم كل المتتبعين لشؤون الكتاب: الكتاب سيقتل بسبب كثرته وليس بسبب نقصانه. ذلك أن محال البيع تعج بمئات الكتب المتفاوتة الوزن من حيث القيمة العلمية، كيف نختار منها ما يفيدنا؟ كيف نميز بينها؟ كان التلفزيون بالأمس القريب يوفر حصصا ثقافية خاصة بالكتب والإصدارات الجديدة نستفيد منها عند اقتناء الكتب. لكن الملاحظ أن هذه الحصص صارت مواعيدها، بمر الزمن، في ساعات متأخرة من الليل في جل القنوات التلفزيونية، ذلك أن هذا النوع من الحصص الثقافية لم يعد الشغل الشاغل للمشاهد، أو على الأقل هذا ما يعتقده مبرمجو الحصص التلفزيونية. وما يحدث الآن في مجال نشر الكتاب على المستوى العالمي بسيط وخطير في آن واحد. هناك زيادة كبيرة في عدد المؤلفين وفي عدد الكتب، لكن هناك نقصا كبيرا في عدد النسخ المسحوبة من كل كتاب، وقد أدت هذه الوضعية إلى ارتفاع سعر الكتاب، ومن ثم تقلص عدد القراء الذين راحوا يبحثون عن بديل للكتاب التقليدي في شبكة الإنترنت. وهكذا ندرك أن عالم نشر الكتب يعرف أزمة حادة زادت الإنترنت طينها بلة، ولذا يتساءل بعض الناشرين عبر العالم: هل هذا توقف نهائي لنشر الكتاب نعيش اليوم مرحلة احتضاره؟ فعلى سبيل المثال تبين بعض الإحصاءات أن متوسط عدد النسخ المسحوبة من الكتاب في بعض الدور الغربية الكبرى تقلص من 15000 إلى 9000 خلال عشر سنوات، إنه أمر مخيف حقا. وهناك قضية أخرى خطيرة تتعلق بالقارئ الذي أصبح عاجزا عن اختيار الكتاب المناسب لأنه لم يعد يجد من يرشده ويوجهه في هذا المجال، ولذا تلجأ بعض دور النشر إلى إصدار كتب ذات مضامين ضعيفة لكنها تلقي الضوء على حدث ركزت عليه وسائل الإعلام كثيرا، مثل موت الأميرة ديانا أو موضوع الانتخابات ونحوها. وتأتي هذه الكتب بالكثير من الأموال لأصحابها إذا ما نشرت بسرعة فائقة ليطلع عليها الناس قبل أن تتحول وسائل الإعلام إلى موضوع ساخن آخر، وخطورة هذه الوضعية تكمن في أنها تشجع الغث من المؤلفات فضلا عن أنها تنطلق من سياسة قصيرة المدى بالنسبة لدار النشر. والواقع الحالي في عالم الكتب أن قلة من المؤلفين نالوا شهرة واسعة جعلتهم يحددون ثمن بضاعتهم مسبقا ويملونها على الناشرين، بينما نجد حقوق بقية المؤلفين تتضاءل وتهضم يوما بعد يوم بسبب نقص إقبال الجمهور على اقتناء كتبهم رغم أن عددا كبيرا منها يتسم بالجودة من الناحية العلمية. ألم يرفض ستيفن كينغ مواصلة التعامل مع دار فيكينغ الأمريكية لأنها لم توافق على منحه قبل صدور مؤلفه مبلغ 37 مليون دولار؟ ألم تبع زوجة الرئيس كلنتون في الآونة الأخيرة حقوق مؤلفها ـ الذي لم يكتب بعد ـ بـ7 ملايين دولار؟ وتشير الإحصاءات في أمريكا إلى أن عدد الكتب التي تسحب منها دور النشر بين 20000 نسخة و30000 نسخة تقلص كثيرا خلال السنين الماضية، واليوم صارت الكتب تسحب منها عموما أقل من 5000 نسخة، أو أكثر من 50000 نسخة إن كان الأمر يتعلق بكتاب مطلوب يتناول موضوعا ساخنا. ولابد من الإشارة هنا إلى خطر يحدق بالكتاب وهو ظاهرة الاستنساخ، التي عمت في مختلف الأوساط، حيث يلجأ الكثير من الناس، ولا سيما الدارسين، إلى استعارة الكتب من المكتبات العمومية واستنساخ منها الصفحات أو الفصول التي يحتاجون إليها. ومن المضار التي ينبه إليها ذوو الاختصاص أن التجول في الإنترنت عبر المواقع لا يخدم ذاكرة المتجول ولا يساعدها على الحفظ، منبهين إلى أن جيل اليوم فقد مبادرة فتح القواميس وأمهات الكتب ليبحث فيها عن ضالته، لكن، وبغض النظر عن هذا الجانب، هل الإنترنت تدعم فعلا الكتاب؟ إذا طرحنا هذا السؤال على أصحاب دور النشر فإن إجابتهم تكون بالنفي. لماذا؟ لأن الإنترنت زادت في تشطير وتجزئة جمهور القراء بعد ما فعلته وسائل الاتصال الأخرى. وهذا على الرغم من أن هؤلاء يعترفون بأن الإنترنت تدعم الثقافة والانفتاح على الآخرين وتزيد في سرعة الاطلاع على العديد من النصوص المكتوبة بما في ذلك الكتب. إن واقعنا الجديد في مجال الكتاب والثقافة يختلف عما كان عليه بالأمس، وقد حدث ذلك بعد ما طرأ من مستجدات في دنيا الاتصال الحديث، أهمها انتشار شبكة الإنترنت والهاتف النقال الذي صار موصولا بتلك الشبكة. ولتصوير هذا الواقع المخيف يذكر البعض بالسؤال المعروف: لو سافرت إلى جزيرة لتقضي بها أياما فأي كتاب ستأخذه معك؟ وأعادوا صياغته على النحو التالي: لو سافرت إلى جزيرة لتقضي بها أياما فما الذي ستحمله معك؟ فيكون الجواب حاسوبي النقال وهاتفي النقال، أما الكتاب؟! .. لاشك أني سآخذ كتابا أستعيره من جيراني أو زملائي!