نزول القرآن .. الأهداف والغايات

ا يعجز الناظر في كتاب الله تعالى أن يجد بين صفحاته ما يشير إلى الهدف الأسمى، والمقصد الأسنى الذي من أجله أنزل القرآن. ومما يدل على سمو الهدف، ونبل المقصد الذي لأجله نزل القرآن هذه الأوصاف التي أطلقها الله على كتابه، فهو (حسبما وصفه رب العزة) القرآن الكريم، والقرآن المجيد، والكتاب العزيز، والكتاب المبين، والذكر الحكيم، والذكر المبارك، والصحف المطهرة، وأحسن القصص، وأحسن الحديث، والبرهان، والفرقان، والحق، والسراج، والبلاغ، إلى آخر هذه الأسماء والأوصاف التي تعبر عن جلال وعظمة القرآن في ذاته، وعظمة وسمو الغاية التي لأجلها نزل. كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى يقول الفيروز أبادي في كتابه بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (188) اعلم أن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى أو كماله في أمر من الأمور، ترى أن كثرة أسماء الأسد دلت على كمال شدته وصعوبته، وكثرة أسماء الداهية دلت على شدة نكايتها، وكذلك كثرة أسماء الله تعالى دلت على كمال جلال عظمته، وكثرة أسماء النبي صلى الله عليه وسلم دلت على علو رتبته وسمو درجته، وكذلك كثرة أسماء القرآن دلت على شرفه وفضيلته أ.هـ. ولكثرة أسماء القرآن الكريم وصفاته أفردها بعض العلماء بمؤلفات مستقلة، وذلك مثلما صنع الإمام ابن القيم في كتابه: (شرح أسماء الكتاب العزيز)، ومن المعاصرين ألف الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي كتابا عنوانه: (الهدي والبيان في أسماء القرآن). وقد أوصل العلماء هذه الأسماء والصفات إلى ما يقارب المائة. القرآن للقلب كالروح للبدن وإلى جانب الأوصاف السالفة الذكر نجد رب العزة تبارك وتعالى يثني على كتابه بصفات تتعدى إلى من أنزل القرآن من أجلهم، والذين خوطبوا به. وعلى سبيل المثال يصف الله تبارك وتعالى كتابه بالروح، وذلك في قوله تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا (سورة الشورى آية 52). وفي هذا الوصف إشارة إلى أن بالقرآن تحيا القلوب، كما أن بالروح تحيا الأبدان وهو ما أشارت إليه آية أخرى هي قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم (سورة الأنفال آية 24) ووصف الله تعالى القرآن بأنه نور، وذلك في قوله تعالى: يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (سورة النساء آية 174). وفي وصفه بالنور ما يشير إلى كونه سببا في تلاشي الظلمات وتبديد حلكتها به، كما قال في آية أخرى: الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد (سورة إبراهيم آية1) ووصف الله كتابه بأنه موعظة، وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، ذلك في قوله تعالى: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين (سورة يونس آية 57. وفي وصف القرآن الكريم بالموعظة وهي بمعنى النصح والتذكير بالعواقب. (لسان العرب لابن منظور ج6 ص 873 مادة وعظ) ما يدل على لطف الله ورحمته بعباده، حيث نصحهم وأحسن توجيههم، وسجل ذلك في كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. القرآن موعظة وشفاء ولما كانت الموعظة من الله تعالى رحمة كما أشرنا قال الله تعالى عقب الآية المذكورة مباشرة: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون (سورة يونس آية 58). قال ابن عباس والحسن وقتادة: فضله الإسلام ورحمته القرآن إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ج1 ص 40 ابن القيم الجوزية. وفي وصف القرآن بأنه شفاء لما في الصدور بيان لكون القرآن يبني النفس الإنسانية بدفعها إلى الخيرات، ووقايتها من السيئات، فهو شفاء للقلب والنفس والروح من كافة الأدواء والعلل، مثل: الوسوسة، والشك والشرك، والنفاق، والطمع، والحسد، والبغي، وحب الظلم، وغير ذلك من العلل القاتلة. يقول الإمام ابن القيم: لم ينزل الله سبحانه من السماء شفاء قط أعم ولا أنفع ولا أعظم ولا أنجع في إزالة الداء من القرآن (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص8). وفي وصف القرآن الكريم بالهدى دليل على استقامة الطريق به، فلا اعوجاج ولا انحراف كما قال تعالى في آية أخرى: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم (سورة الإسراء آية 9). القرآن نور وهداية وباعتبار أن الهداية أصل في إنزال القرآن، ومظهر من مظاهر إعجازه، كالإبراء بالنسبة للطب، والتخطيط بالنسبة للمهندس نجد الله سبحانه وتعالى يؤكد على هذا في العديد من الآيات، وقد أحصيت ما وصف الله فيه كتابه بالهدى فزادت عن عشرين مرة، وأحيانا كان يذكرها في الآية الواحدة مرتين، وذلك كقوله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان (سورة البقرة 185) وينتج عن هذا كله أن يكون القرآن الكريم رحمة من الله ساقها لعباده، وهو ما ختمت به الآية الكريمة من أوصاف القرآن الكريم، ولذلك اعتبر القرآن نعمة لم يخص الله بها رسوله فقط، بل هو لكل الناس، وشكرها واجب عليهم جميعا، فقال تعالى: واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به (سورة البقرة آية 231). فمن اتعظ بالقرآن كان له رحمة، ومن خالف أوامره كان عليه لعنة. وهكذا كل وصف أطلقه الله على القرآن الكريم نجد جانبا مشرقا يعبر عن سمو الغاية، ونبل الهدف الذي لأجله أنزل الله القرآن. ولقد أطنب الأولون والآخرون في الثناء على القرآن شعرا ونثرا، والحقيقة أن الدنيا كلها لو أشبعت القرآن ثناء فلن توفيه حقه. لأنها لا تحيط به علما. فما سجلوه في حق القرآن قطرة من بحر، بجانب ما ذكره الله تعالى في وصف كتابه، وأبان به عن سمو غايته، وجلال رسالته. هذا الخير العظيم الذي احتوى عليه القرآن الكريم في آياته ظهرت ثمراته وبركاته واضحة جلية على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والأجيال التي تلتهم، فأعزهم الله بعد ذل وجمعهم بعد فرقة، وأصبحوا سادة بعد أن كانوا عبيدا، ودعاة بعد أن كانوا رعاة، ووقف أحدهم وهو: ربعي بن عامر في مجلس رستم قائد الفرس ليعلن على مسامع الدنيا كلها قائلا: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك منا قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله. قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي (البداية والنهاية ج7 ص 39 للحافظ بن كثير). السر في تحول العرب وقوتهم لقد كان السر وراء هذا التحول كله في حياة العرب نزول القرآن الكريم، إذ لم يكن بديارهم قبل نزول القرآن معاهد للتعليم، ولا أساتذة للتربية، وكانوا إلى جانب ذلك فقراء في أسباب الحضارة ومظاهرها، فهم قبائل مشتتة يثور فيما بينهم التنازع لأتفه الأسباب، ومعبوداتهم من الأصنام والأوثان، وحالتهم الاجتماعية والاقتصادية في أدنى الدرجات، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول القرآن عليه (أستاذ يعلمه أو كتاب يقرؤه). وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (سورة العنكبوت آية 48. ) وفي الدلالة على كون القرآن الكريم هو العامل الأساسي في إخراج الأمم من أوضاعهم المتردية إلى ما يسمو بإنسانيتها قول الله تعالى: الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد (سورة إبراهيم آية 1) والشاهد في الآية أن الله جعل القرآن وسيلة الرسول صلى الله عليه وسلم التي بها يستخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولم يفقد القرآن الكريم خاصيته تلك، بل بقي وسيبقى أبد الدهر لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد. ويقول المفكر الإسلامي محمد إقبال: إنه لما قامت دولة القرآن اختفى الرهبان والكهان.. إنه ليس بكتاب فحسب، إنه أكثر من ذلك، إذا دخل في القلب تغير الإنسان، وإذا تغير الإنسان تغير العالم (روائع إقبال ص 172 أبو الحسن الندوي) السر في تخوف المشركين وغيرهم من القرآن وهذا بدوره يفسر لنا السر في تخوف المشركين قديما وحديثا من هذا الكتاب الكريم وتواصيهم فيما بينهم على محاربته بكل الوسائل لعلمهم بمدى تأثيره وقوة حجته. ففي شأن القدامى ممن عاصروا نزول القرآن الكريم يقول الله تعالى: وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون (سورة فصلت آية 26) وفي العصر الحديث لم تتوقف عداوة المشركين للقرآن رغم ادعائهم الالتزام بحرية الرأي والاعتقاد. أقوال بعض المبشرين والغربيين عن القرآن يقول المبشر تاكلي: يجب أن نستخدم القرآن وهو أقوى سلاح في الإسلام ضد الإسلام نفسه حتى نقضي عليه تماما، يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديدا، وأن الجديد فيه ليس صحيحا (قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدو أهله 49- 50 جلال العالم) ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر بمناسبة مرور مائة عام على احتلالها: يجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم حتى ننتصر عليهم (نفس المرجع) وقد تكرر مثل هذا الكلام على ألسنة الكثيرين من أعداء الإسلام المعاصرين. الغاية العظيمة من القرآن هي تكوين الأمة ومن خلال ما ذكرناه في النقاط الخمس السابقة يتضح لنا أن الله تعالى أنزل هذا القرآن لغاية عظيمة، هي تكوين الأمة، وصناعتها على عين الله، بحيث تتميز في عقائدها وعبادتها وأخلاقها، وتتبوأ مكان الصدارة على غيرها في هذه الدنيا، فإذا كانت يوم القيامة نالت شرف الشهادة على الناس جميعا. العمل بالقرآن أمر ملح ولذا كان العمل بالقرآن والتزام تعاليمه فريضة على كل مسلم، ومطلبا ملحا أكد عليه رب العزة مرارا وتكرارا ، ونضرب لذلك بعض الأمثلة: 1-فمرة يأمر الله عباده باتباع القرآن والسير على نهجه فيقول: وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون (سورة الأنعام آية 155) 2- ومرة يأمرنا بالاستمساك به وعدم التفريط فيه فيقول: فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم (سورة الزخرف آية 43) 3- وثالثة يدعونا إلى تحكيمه في كل ما ينزل بنا، ويحذرنا من الميل بأهوائنا بعيدا عن هديه فيقول: وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك.. (سورة المائدة آية 49) 4- ورابعة يدعونا إلى تلاوته، ويثني على من يواظبون على تلاوة القرآن فيقول: إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور. ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور (سورة فاطر آية 29- 30) تلاوة القرآن أعم من أن تكون باللسان وقد تكرر الأمر بتلاوة القرآن في كثير من الآيات حتى عد في بعضها هدفا بعث لأجله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في نحو قوله تعالى: كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك.. (سورة الرعد آية 30) والتلاوة في هذه الآيات وأمثالها أعم من أن تكون مجرد ترديد اللسان. يقول الإمام ابن القيم: تلاوة القرآن تتناول تلاوة لفظه ومعناه، والمراد بتلاوة المعنى: اتباع القرآن تصديقا بخبره وائتمارا بأمره، وانتهاء بنهيه، وائتماما به حيث ما قادك انقدت معه، وتلاوة المعنى أشرف من مجرد تلاوة اللفظ، وأهلها هم أهل تلاوة ومتابعة حقا. (مفتاح دار السعادة ج1 ص 42 بتصرف) إلى غير ذلك من التوجيهات الربانية التي لا تخفى على من له صلة بالقرآن الكريم. القرآن الكريم مصدر للحياة وليس للتبرك وبعد هذا العرض الموجز للغاية التي لأجلها أنزل الله القرآن يتضح لنا خطأ الكثيرين منا عندما يتصورون أن مهمة القرآن لا تعدو أن تكون للتبرك به، أو لدفع النوازل بسببه، أو للترحم على الأموات بقراءته، بحيث أصبح من المألوف إذا سمع الناس القرآن بادروا بقولهم: من مات؟ يقول المفكر الإسلامي محمد إقبال: إن الكتاب الذي هو مصدر حياتك ومنبع قوتك لا اتصال لك به إلا إذا حضرتك الوفاة، فتقرأ عليك سورة يس لتموت بسهولة. فواعجبا! قد أصبح الكتاب الذي يمنحك الحياة والقوة يتلى الآن لتموت براحة وسهولة (روائع إقبال ص 43 أبو الحسن الندوي) ولذلك لا نعجب إذا رأينا إذاعات الدول الكافرة تذيع القرآن الكريم في برامجها الموجهة إلى المسلمين، لأنها أدركت أنهم يستمعون للقرآن بآذانهم، وينصرفون عنه بقلوبهم، وأن جل اهتمامهم إن لم يكن كله ينصب على استماع الأنغام والألحان دون التفات إلى مقاصد القرآن وأهدافه، ولذلك لا يحرك القرآن فيهم ساكنا، ولا ينبه فيهم غافلا. كذلك لا نعجب إذا رأينا القرآن الكريم يطبع في أبهى صورة وأفخم طبعاته أحيانا بأيدي غير المسلمين، لأنهم رأوا القرآن الكريم في حياة المسلمين شكلا بلا مضمون وجسدا بلا روح. لن يتحقق للأمة ما تصبو إليه من العزة إلا بالقرآن ولن يحقق الله للمسلمين ما تصبو إليه آمالهم من التمكين في الأرض، وتحقيق العزة والكرامة بعد الذل والإهانة إلا إذا تعاملوا مع القرآن على النحو الذي كان يتعامل به مع القرآن سلف الأمة الصالح. فكيف كان السلف الصالح يتعاملون مع القرآن؟ هذا ما سنتناوله في النقطة التالية إن شاء الله، ليكون ذلك بين أيدينا مثلا يحتذى، وأثرا يقتفى، والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.