التواضع والمذلة.. هناك فرق!!

مما اهتم به الإسلام لتحقيق الأخلاق العالية للمسلمين أمران أساسيان هما ترسيخ العزة في قلوبهم، فلا ذلة ولا مهانة، وفي نفس الوقت ترسيخ مبدأ التواضع وعدم الكبر والغرور وبطر الحق وغمط الناس. ومن الملاحظ أن بعض المسلمين لا يحسن كثيرا التفريق بين التواضع والمذلة، فربما تجده في موقف ذل وهوان ظانا منه أن هذا هو التواضع الذي أمر به الإسلام وحث عليه، فيفقد أساسا عظيما في الأخلاق الإسلامية ألا وهو العزة بالله. ولذا كان من المناسب توضيح المعنيين بما يزيل هذا الوهم الحاصل والذي يؤدي إلى الخلط بينهما. ما معنى التواضع؟ التواضع معناه خفض الجناح، ولين الجانب، والبعد عن اعتزاز المرء بنفسه، والإعجاب بذاته، ومن ثم قيل: إن التواضع هو اللين مع الخلق، والخضوع للحق، وخفض الجناح. وقال أحد العلماء: التواضع: قبول الحق ممن كان، وذلك بالخضوع له والانقياد إليه، ولو كان صغيرا أو جاهلا. كيف كان حديث القرآن الكريم والسنة النبوية عن هذا الخلق الكريم التواضع في الكتاب والسنة ما من شك في أن التواضع خلق من الأخلاق العظيمة، وفضيلة من أعلى الفضائل، ولذلك اهتم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بهذا الخلق العظيم، فيقول الله عز وجل في ثنائه على عباد الرحمن: وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما فهم يمشون في رفق ولين وتواضع دون تكبر أو تعال أو غرور. وقال عز وجل: ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرج الأرض ولن تبلغ الجبال طولا. وقال جل شأنه في حديث لقمان لابنه: ولا تصعر خدك للناس أي لا تتعال عليهم ولا تتكبر عليهم. ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور? واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: مازاد الله عبدا يعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله. وأخرج البزار من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: طوبى لمن تواضع في غير مسكنة، وأنفق مالا جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة. وقد روي أن الله تعالى أوحى إلى موسى - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام-: إنما أقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، ولم يتعاظم على خلقي (أي لم يتكبر)، وألزم قلبه خوفي، وقطع نهاره بذكري، وكف نفسه عن الشهوات من أجلي. وروي عن المسيح عيسى عليه السلام: طوبى للمتواضعين في الدنيا، هم أصحاب المنابر يوم القيامة. النبي صلى الله عليه وسلم والتواضع ومن خلال ما سبق يتضح أن التواضع خلق يرفع في ميزان الإسلام، ويسمو في منظور الدين، حتى يكون خلقا للأنبياء والمرسلين عليهم جميعا صلوات الله وسلامه، ويكون سمة لكل من يتخلق بأخلاقهم، ويقتدي بسننهم. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم مثال للتواضع، فكان يجالس الفقراء والمساكين، ويأكل مع الخادم، بل إنه ليروى أنه صلى الله عليه وسلم وجد فتاة صغيرة تبكي بسبب ضياع بعض المال منها ذهبت تشتري به طعاما لمن تخدمهم، فأعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم ما اشترت به الطعام، وظل معها حتى أوصلها إلى دارهم وأوصاهم بها خيرا، فأعتقوها لوجه الله وإكراما له صلى الله عليه وسلم. وقد كان عليه الصلاة والسلام يقوم على خدمة أهله، ويحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعليه، وكان لا يتميز على أحد من أصحابه، فهو صلى الله عليه وسلم القائل: إن الله أوحى إلي أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد. هل يعني التواضع أن يتذلل المسلم ويستهين بنفسه؟ التواضع لا يصدق إلا أن يكون عن قدرة، ولكن ليس معنى التواضع أن يتذلل الإنسان أو يهين نفسه، لأنه من هان على نفسه كان على غيرها أهون، بل إن التواضع الحقيقي هو الذي إلى العز والرفعة أقرب. ولذلك عندما أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المتواضعين قال: طوبى لمن تواضع في غير مسكنة أي لم يكن تواضعه تذللا ومسكنة تنقص من قدره، أو تقلل من شأنه، فليس التواضع مذلة أو انكسارا أو هوانا. ولذلك قال العلماء العز في التواضع. وعلى ذلك ينبغي ألا يسرف الإنسان في التواضع حتى يصل إلى المذلة، بل يكون تواضعه بقدر ومقدار، لأن المرء إذا أسرف في تواضعه فقد وضع نفسه موضع السخرية والاستهزاء وسوء الظن. التواضع فضيلة بين رذيلتين فالتواضع فضيلة بين رذيلتين: المسكنة والكبر، فكما أن الكبر أو الغرور مذموم، فكذلك يكون الهوان أن التذلل مذموما، وأحب الأعمال إلى الله أواسطها. ومتى صدق الإنسان في تواضعه، وجعله وسطا بين الإفراط والتفريط، وقصدا بين المذلة والتكبر، حقق التواضع ثمرته المرجوة، وغايته المنشودة، فكل شيء في موضعه محمود، وكل أمر خرج عن حد الاعتدال يصير مذموما. يظن البعض أن التواضع يعني إهمال النظافة في المظهر أو الثياب؟ من الخطأ أن يتصور البعض أن التواضع يعني إهمال المظهر، بل إن الإسلام اهتم بالشكل والمظهر ، كما اهتم بالمضمون والجوهر، ومن ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال. ولذلك كانت النظافة من الإيمان، وليس هناك تعارض بين الاهتمام بالمظهر والتواضع. نسأل الله تعالى أن يجملنا بخلق التواضع. هذا والله تعالى أعلم