خلفيات سبتمبر... التهديدات الحقيقية لأمريكا لم تكن يوما خارجية

الكتاب: الثلاثاء الأسود: خلفية الهجوم على الولايات المتحدة الأمريكية. المؤلف: محمد أحمد النابلسي الناشر: دار الفكر المعاصر، بيروت ـ دار الفكر، دمشق. عرض: عبدالفتاح دويدار. ... إن الولايات المتحدة لن تكون بلدا آمنا خلال السنوات المقبلة. فهذا البلد سوف يعرف سنوات قادمة شديدة الصخب تذكر بصخب العشرينيات من القرن الماضي... هذا مقطع من مقالة منشورة في 1 10 2000م يتضمنها الكتاب الصادر عن دار الفكر المعاصر للدكتور محمد أحمد النابلسي بعنوان الثلاثاء الأسود ـ قصة الهجوم. وفيه يرى المؤلف أن علائم الفوضى الأمريكية الداخلية بدأت مبكرة جدا. ولم تتحول إلى الكمون إلا بفضل الرفاهية والرخاء اللذين جاءا نتيجة الحرب العالمية الثانية ليحولا هذه الدولة القاصية إلى دولة مركزية. ومع هذا التحول توليها زعامة العالم الحر الذي خرت إمبراطورياته صريعة الحرب العالمية. فانتقل العداء وتوجهت المصالح الأمريكية من مخالفة أوروبا إلى معاداة الشيوعية. فهذا البلد لا يستطيع العيش دون عدو؛ كونه يوجه مصالحه عكس وجهة مصالح العدو الذي يختاره. وبالرغم من هذه الحاجة الهوسية للعدو فإن التهديدات الحقيقية لأمريكا لم تكن يوما خارجية، بل كانت داخلية على الدوام. ففي عام 1920م حدث أول عمل إرهابي داخلي حين انفجرت عبوة ناسفة في وول ستريت (البورصة). وأعلن يومها أن الفاعل مجموعة متطرفة (آرية معادية لليهود). وتوالت الأحداث الداخلية لتصيب الولايات المتحدة بخسائر موجعة وأكثر إيلاما من كل الحوادث الخارجية. ومن أهم المفاصل الداخلية المهددة نذكر: حوادث ليتل روك العنصرية (1957م)، والثورة الطلابية الداعمة لمارتن لوثر كنغ (1964م)، وإضراب عمال جنرال إلكتريك (1969م)، والمعارضة الحادة لحرب فيتنام لغاية نهايتها، ثم حوادث لوس أنجلوس العنصرية، وانفجار أتلانتا (1994م)، وانفجار أوكلاهوما (1995م)، وحوادث سينسيناتي العنصرية (2001م).. وهذه مجرد أمثلة على مدى إيلام الحوادث الأمريكية الداخلية. من هنا كان من الطبيعي توقع تنامي خطر هذه الأحداث مع فقدان العدو الذي يشكل حاجة هوسية لهذا البلد. ومن هنا كانت صيحة هنتنغتون في مقالته تآكل المصالح الأمريكية. وفيها سؤال عما إذا كان انفجار أوكلاهوما ممكن الحدوث لو كان لأمريكا عدو خارجي؟ الرئيس كلينتون بدا مستوعبا لهذا السؤال ومحركاته، لذلك رأيناه يختلق الأعداء في محاولة لتصدير الفوضى الداخلية إلى الخارج وللحؤول دون تفجرها في الداخل، ونجح في ذلك أي نجاح، بل إنه تمكن من تحقيق أول فائض في ميزان المدفوعات الأمريكي منذ عام 1956م، وكان ذلك عام 1999م باستنزاف الأموال الأوروبية. لكن هذا السلوك الكلينتوني دفع بالكثيرين، ومنهم المؤلف، إلى التساؤل عما إذا كان من الممكن الاستمرار في تصدير هذه الفوضى إلى ما لا نهاية؟!. وطرح السؤال يبطن الإجابة بالنفي. من هنا تكرار النابلسي في العديد من مقالاته لمقولة مفادها أن كلينتون سيكون آخر الرؤساء الأمريكيين المحترمين. ولم يخيب بوش ظنون المؤلف إذ بدأ مواجهة النكبات منذ استلامه الحكم وحتى اليوم. فقد كان مقدرا للفوضى الداخلية الأمريكية أن تندلع وأن تتفجر بغض النظر عن كبسولة التفجير. إذ تجلت الفوضى الأمريكية واضحة من خلال فوضى الانتخابات الأخيرة التي اقتضت العودة إلى تاريخ الانتخابات الأمريكية وإلى طرح ضروريات المراجعة الدستورية مع ترشيح يهودي لمنصب حساس، وزيادة الفقر والبطالة وانخفاض الإنفاق، وعودة الرغبة في التسلح ونقيضها خفض الضرائب. على هذا الأساس أكد المؤلف في مقالته المنشورة بتاريخ 1 3 2001م أن ثلاث مجموعات من الأخطـار تهـدد استمراريـة الأمـن الأمريكـي. وحددهـا كالتالـي: 1ـ اضطرابات داخلية (بدأت بسينسيناتي ومرت بالثلاثاء مرشحة للاستمرار بأشكال عديدة أخرى). 2ـ الانهيار الاقتصادي حيث لازم الركود توقع فوز بوش الابن وتكرس بعدها. 3ـ فقدان بوش لشخصيات مهمة في فريقه الرئاسي (خصوصا والده ونائبه ديك تشيني). وتتضخم هذه الأخطار من خلال ثغرات النظام الأمريكي الرأسمالي ومن خلال مراكمته للأعداء. فمن أعداء الحكومة الفيدرالية في الداخل يمكن تعداد كل من الميليشات البيضاء (العنصرية المعادية لليهود والملونين) ومهاجري أمريكا اللاتينية البائسين، والسود المعانين عنصرية مزمنة. لكن الفئة الأهم هي مجموعة الأمريكيين ذوي الأصول العرقية المتعرضة لاضطهاد السياسة الخارجية الأمريكية وضغوطاتها البالغة حدود التهديد بالمجاعة (الصين وروسيا خاصة) إضافة إلى قائمة طويلة من الأعداء الذين لا يختصر خطرهم باعتماد الحكومة الفيدرالية مصطلحا موحدا للرمز إليهم هو مصطلح الإرهاب. ففي نظر الحكومة الأمريكية أن هؤلاء كلهم إرهابيون داخليون. وقد كانت تخصص للسيطرة على إرهابهم مبلغ ستة مليارات دولار سنويا. وهو مبلغ أثبت الثلاثاء الأسود عدم جدواه وانعدام فعالية القائمين عليه (بدأت أحاديث عن إقالة جورج تينيت رئيس المخابرات الأمريكية). وربما لهذا السبب لجأ الرئيس السابق كلينتون لتصدير الفوضى إلى خارج الولايات المتحدة. أما بوش فهو أراد سياسة مخالفة أدت إلى انفجار الفوضى الداخلية الأمريكية. فقد ضرب الإرهاب ضربته ليصيب الجبار الأمريكي في مقتل. مما أجبر بوش على العودة إلى سياسة تصدير الفوضى ولكن بعد فوات الأوان. فهل ينفع الاختصار هنا باعتبار كل الفئات سابقة الذكر إرهابا؟ وهل يقتنع الجمهور الأمريكي بأن ابن لادن هو العدو؟!. إن الولايات المتحدة مضطرة إلى تصنيف الإرهاب وتوزيعه إلى فئات وأنواع كي تكتشف الفاعل المدبر لحوادث نيويورك وواشنطن. وهي لا شك آسفة لأنها لم تبتدع هذا التصنيف وتعمل من أجله قبلا. وهي أكثر أسفا لعدم ربطها بين حالات التجسس الأخيرة من روسية ويهودية وصينية وغيرها. ومهما يكن فإن هذا الطرح النظري لا يفي بعرض محتويات هذا الكتاب الذي يحتوي على تطبيقات عملية وتحليلات مباشرة للسلوك السياسي الأمريكي في مواقف ووضعيات محددة. مثل كوسوفو، وتعديلات استراتيجية الناتو وتسخير العالم لخدمة المصالح الأمريكية وتصدير الفوضى الملازمة لها. مع تحليل شخصيات بوش وفريقه الرئاسي. وغيرها من التوقعات المستقبلية التي دفعت بالنابلسي للتأكيد في أكثر من مقالة، خلال السنوات السابقة، على أن سنوات شديدة الصخب تنتظر الولايات المتحدة التي لن تكون بلدا آمنا خلال السنوات المقبلة. إن المقالات التي يضمها هذا الكتاب هي مقالات كان المؤلف قد نشرها في جريدة الكفاح العربي على مدى الفترة الممتدة من عام 1997م ولغاية عام 2001م، لذلك فهو يرد القارئ إلى تاريخ نشر المقالة التي يقرؤها بغية وضعها في إطارها الزمني الصحيح واستشفاف التحليل المستقبلي والتوقعات المسبقة لهذه المقالات. إذ إن أهمية الكتاب إنما تكمن في هذه التوقعات المسبقة التي يأتي تحقيقها حافزا لاعتماد النظريات المستقبلية المؤدية إليها؛ كونها أثبتت فعاليتها وصحة توقعاتها. مع التنبيه إلى أن الكتاب يحتوي على توقعات متأخرة لما تزل تنتظر بعض الوقت لحين حدوثها. وحسب الكتاب أنه يقرن كل مقالة بتاريخ وجهة نشرها تاركا للقارئ مهمة التحليل الرجعي للأحداث كي يقومه على طريقته الخاصة.