فتح القسطنطينية م

بوادر الحرب بين الطرفين: كانت النتيجة الحتمية لبناء قلعة رومللي حصار ومحاولات الرومانيين هدمها والاعتداء على عمالها، أن أعلن السلطان الحرب رسميا على الدولة الرومانية، وعين فيروز أغا قائد للقلعة الجديدة ومعه أربعمائة من خيرة جنود الانكشارية وأمره ألا يسمح لأي سفينة أجنبية بالمرور إلا بعد تفتيش دقيق ودفع الضريبة، وإن أبت أطلق عليها القذائف.. وأدرك الإمبراطور قسطنطين أن محاولاته للمحافظة على السلام بأي ثمن لن تفيده شيئا، فلا شيء يرضي العثمانيين غير القضاء على ملكه وغير الاستيلاء على مدينته، فأغلق أبواب القسطنطينية، وبعث إلى السلطان محمد الثاني بما عزم عليه في رسالة خطية يقول فيها: لما كان من الجلي أنك تريد الحرب أكثر من السلام، ولما كنت غير مستطيع أن أقنعك بإخلاصي واستعدادي لأن أكون لك تابعا، لذا فالأمر لله وسأوجه وجهي إلى الله، فإن كانت إرادته تقضي بأن تصبح هذه المدينة مدينتك، فلا مرد لقضاء الله وقدره، وأما إذا ألهمك الرغبة في السلام فسأكون سعيدا ما بقيت، ومع ذلك فإني أعفيك من كل تعهداتك واتفاقاتك معي، وسأغلق أبواب هذه المدينة وأدافع عن شعبي إلى آخر قطرة من دمي.. وقبض الإمبراطور قسطنطين على كل الأتراك الموجودين داخل المدينة عندما أرسل إليه السلطان إعلان الحرب. وقد بدأت الحرب الفعلية عندما هاجمت السفن الإغريقية الشواطئ التركية الإسلامية، فأخذت من قدرت عليه، وقتلت من قتلت، وخربت ما استطاعت، وباعت في الأسواق ما غنمته.. ودمروا مدينة أزمير تدميرا تاما وأشعلوا فيها النيران، فلما علم السلطان بذلك ازداد تصميما على فتح القسطنطينية وأقسم لينتقمن لسكانها أشد انتقام. استعدادات المسلمين : المدفع السلطاني: كان عدل السلطان محمد الفاتح قد ا نتشر في كل مكان حتى تسامع به أهل القسطنطينية الذين كانوا يعانون من الظلم والبطش من حاكمهم ، وكان ممن عانوا الظلم والاضطهاد مهندس مجري يقال له أوربان ففر إلى السلطان محمد الفاتح وعرض عليه أن يصنع له مدافع تدك أسوار القسطنطينية .. فرحب به السلطان، وأغدق عليه الأموال، وسهل له كل الوسائل لإتمام اختراعه. وبعد ثلاثة أشهر أتم أوربان صنع عدد من المدافع، وكان من بينها مدفع ضخم عملاق لم ير مثله قط، فقد كان يزن سبعمائة طن، وتزن القذيفة الواحدة اثنا عشر ألف رطل، ويجره مائة ثور يساعدها مائة من الرجال الأشداء، ويزحفون به زحف السلحفاة. وعندما أرادوا تجربته لأول مرة في أدرنة أنذر السلطان سكان المنطقة، فسمع دويه على بعد ثلاثة عشر ميلا، وسقطت قذيفته على بعد ميل، وصنعت حفرة في الأرض عمقها ستة أقدام. عند ذلك أمر السلطان بضمه إلى الجيش والذهاب به إلى الجبهة فقطع هذا المدفع، الذي أسماه الترك بالمدفع السلطاني الطريق من أدرنة إلى موضعه أمام أسوار القسطنطينية في شهرين اثنين.. تنظيم صفوف الجيش: وقد نسق السلطان قواته تنسيقا دقيقا طبقا لخطة حربية محكمة، اشترك معه في وضعها كبار قواد الدولة وقادة الوحدات، وكانت الخطة تقضي بأن يتعاون الفرسان مع المشاة في المدفعية، والجنود النظامية والفرق الخاصة مع الجنود غير النظامية في حصار المدينة والهجوم عليها.. وبدأ السلطان تقسيم القيادات العسكرية وتنسيق قطاعاتها حيث جعلهم ثلاثة أقسام: القسم الأول: الميمنة: وتتألف من جنود الأناضول بقيادة إسحاق باشا ومحمود بك، ويمتد من الساحل الجنوبي لدفاعات المدينة عند بحر مرمرة إلى باب طوب قبو. القسم الثاني: الميسرة: وتتألف من جنود أوربا والمتطوعين والجنود غير النظاميين بقيادة قرة جه باشا ويواجه جزءا من السور ليمتد من أقصاه الشمالي عند ميناء القرن الذهبي إلى باب أدرنة. القسم الثالث: القلب: ويتألف من جنود الانكشارية، والجنود المختارة التي تتكون منها الفرق الخاصة والانتحارية بقيادة السلطان محمد الثاني نفسه.. ويواجه من السور الجزء الوسط منه الذي يمتد من باب طوب قبو إلى باب أدرنة. الأسطول البحري: أما الأسطول البحري فقد حدد السلطان مهمته وهي منع وصول التموين والعتاد الحربي إلى المدينة عن طريق البحر، ومهاجمة السفن التي تحرس السلسلة التي تغلق مدخل القرن الذهبي، ومحاولة اقتحامه، وتدمير السفن الراسية فيه، وإحداث أكبر كمية من الخسائر في الأرواح بما تقذفه من نيران على حصون المدينة المطلة على البحر، وأخيرا التعاون مع الجيش البري في حصار المدينة. وأمر السلطان محمد الثاني قائد الأسطول العثماني بالطة أوغلي بتطهير بحر مرمرة من الجيوب الرومية المعسكرة في جزره والاستيلاء على جزر الأمراء والتي كانت منفى لأباطرة الروم وأمرائهم، فاستولى عليها قائد البحرية العثمانية وأطلق سراح المسجونين والمعتقلين، وأخرجهم من السجون والسراديب المظلمة التي كانوا فيها، ثم وضع في هذه الجزر حاميات عثمانية. المدافع والمجانيق: نصب السلطان أمام السور البري المدافع والمجانيق وأحكم وضعها وتنسيقها وكانت هناك أربعة عشرة بطارية مدفع، في كل واحدة منها أربعة مدافع، نصبت الكبيرة الضخمة أمام باب القديس رومانوس ووزعت البقية على سائر أرجاء السور. استعدادات الإمبراطور قسطنطين قائد الروم: ترميم أسوار المدينة: وفي نفس الوقت الذي كان السلطان محمد الفتاح يستعد فيه للحرب كان الإمبراطور قسطنطين وزمرة من شجعان أهل القسطنطينية قد أخذوا في تحصين المدينة وإعداد وسائل الدفاع التي قدروا عليها، وكان أول عمل لهم إصلاح الأسوار المهدمة التي أبلاها الدهر وتصدعت أمام إغارات المغيرين المتكررة، واستخدموا أحجار القبور والكثير من الآثار القديمة والمنازل المتهدمة لهذا الغرض. طلب إمدادات من أوربا: وأرسل الإمبراطور البعثات الصارخة إلى أوربا تطلب النجدة واستمر ذلك طوال شتاء عام 1452م.. وقد بدأت ترد إلى المدينة نجدات بسيطة حيث جاء الكاردينال إيزيدور مبعوث البابا في روما ومعه مائتا مقاتل لنجدة المدينة ولإتمام توحد الكنيستين الشرقية والغربية، وتبعته ثماني سفن من جزيرة كريت، تحمل النبيذ للمحاصرين. ثم جاء المغامر الجنوبي جون جستنياني على سفينة محملة بالمؤن والذخائر ومعه سفينة أخرى جملة رجالها سبعمائة مقاتل، وقد عينه الإمبراطور قائدا عاما للقوات المدافعة عن المدينة حيث أخذ جون جستياني ينظم وضع مدافعه الصغيرة على الأسوار في نقاط محددة .. وقسم المدافعين حسب شعوبهم وأجناسهم، وخصص لكل واجباته، وقام بتدريب الرهبان المدنيين الذين يجهلون فن الحرب كلية. وضع سلاسل ضخمة في القرن الذهبي: قرر الإمبراطور وضع سلاسل ضخمة لإغلاق القرن الذهبي أمام السفن القادمة تبدأ من طرف المدينة الشمالي وتنتهي عند حي غلطة. وقد كانت لهذه السلاسل شأن كبير ودور هام في الدفاع عن المدينة حيث وقفت أمام الأسطول التركي، وعملت على حماية السفن التي تجمعت وراءها. تنظيم الجيش وعقد المجالس العسكرية: نظم الإمبراطور عملية تحصين أسوار المدينة حيث وضع في كل زاوية من ذلك السور حصن قوي حيث يتولاه ثمانية آلاف من المدافعين يعاونهم عدد كبير من سكان المدينة. وكانت هناك فرقة الأجانب المكونة من ثلاثة آلاف مقاتل، وتتألف من محاربين، جنوبيين وبنادقة وعناصر من كريت وروما وأسبانيا. وعسكر الإمبراطور وحشد جنوده في ناحية وادي ليكوس، وهي المنطقة الضعيفة في الأسوار عند باب القديس رومانوس، وبدأ يعقد المجالس العسكرية لتنظيم أمر الدفاع عن المدينة وأخذ المشورة من كبار قادته وعهد إلى جون جستياني بمهمة الدفاع عن هذه الناحية. وكان تسليح جنوده بصفة عامة سيئا، فلم يكن لديهم السلاح الكافي ولا السلاح الجيد الحديث، ولم يكن لديهم أيضا مدفعية قوية، وحتى مدافعهم الصغيرة القصيرة المرمى فإنهم لم يستطيعوا نصبها على الأسوار خشية ألا تتحملها ولا تتحمل أصوات انفجاراتها. بدأ القتال وخطة السلطان محمد الفاتح لفتح المدينة: الهجوم عن طريق البر: بدأت القوات العثمانية هجومها عن طريق البر وذلك بدك أسوار المدينة لمدة أسبوعين، ولكنها لم تنل فوائد ذات بال من هذه الأسوار الجبارة التي كان يصلح المدافعون الثغرات المحدثة فيها بكل همة ونشاط. ثم حاول الأتراك عبور الخندق بعد ملئها من الحطب والأحجار، ودخول السور من ثغرة صغيرة في اليوم الثامن عشر، لكنهم تعرضوا للنار والحديد من السهام المحرقة والنار الإغريقية وقذائف المدافع البيزنطية، كما فشلوا في تحطيم السلسلة الحديدية الجبارة التي أغلق بها مدخل خليج القرن الذهبي أمام السفن العثمانية الرابضة في بحر مرمرة. الهجوم عن طريق البحر: وفي 20 أبريل وصلت خمس سفن حربية من جهة البابا تحمل العتاد الحربي والمؤن، وحدثت معركة بحرية بين الطرفين وانهزم قائد البحرية العثمانية بلطة أوغلي ولم تستطع السفن العثمانية رغم كثرتها أن تمنع هذه السفن الحربية الكبيرة من العبور إلى ميناء القرن الذهبي. ومن هنا تفتقت عبقرية الفاتح بخطة فريدة لم تستعمل إلا مرة أو مرتين في تاريخ الحروب اليونانية القديمة وهي: أنه قرر إدخال السفن العثمانية من ميناء بشكطاش العثماني دولمة باغجه الحالي في مضيق البوسفور إلى القرن الذهبي عن طريق البر، وركبت في سبعين سفينة عجلات صغيرة، وفرشت مسافة ثلاثة أميال بالألواح الخشبية، ودهنت هذه الألواح بالشحم، وهكذا جرت هذه السفن عبر التل من جانب غلطة إلى قاسم باشا في خليج القرن الذهبي تجاه الميناء البيزنطي، وذلك في ليلة 21 أبريل، ولإشغال الأعداء من الوقوف على هذه العملية المفاجئة أمر الفاتح بقذف شديد على أسوار المدينة طوال الليل كما تحالف مع الجنوبيين الذين كانوا يسكنون حي غلطة. وفي صباح 22 أبريل فوجئ البيزنطيون بمنظر السفن العثمانية في القرن الذهبي إحدى نقاطهم الحصينة من جهة البحر، فسقط في أيديهم. عملية أخرى وهجوم آخر: لم يكتف السلطان محمد الفتاح بذلك بل لجأ إلى عمليات عسكرية أخرى كنقب الأرض تحت الأسوار وإدخال جنوده من هذه الأنفاق المحفورة في عدة مواضع .. لكن البيزنطيين عرفوا هذا، وعندما وصل بعض الجنود إلى الطرق الآخر فوجئوا بالزيت المغلي والنار المحرقة تحرق وجوههم ومات مئات منهم. كما لجأ الفاتح إلى تدبير آخر لتسلق جنوده السور، فأمر ببناء برج خشبي ضخم ذي ثلاث طوابق، يجلس فيه الجنود مع آلات الحفر والنقب والآخرون بالأسلحة والسلالم وغطى هذه القلعة المتحركة على العجلات بجلود سميكة مبللة كي لا تؤثر فيها نيران العدو، وقرب هذا البرج إلى إحدى البوابات، ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل أيضا إذ احترق البرج أخيرا بقذائف البيزنطيين المحرقة والنار الإغريقية التي كان يرمي بها العدو من فوق الأسوار بشكل متواصل. الهجوم النهائي على المدينة: عند ذلك قرر السلطان محمد الفاتح الهجوم الأخير في 29 مايو وقبل ذلك بيومين الأحد 27 مايو أمر جنوده بأن يصوموا تطهيرا وتزكية للنفوس، ويطلبون العون من الله عز وجل، وفي مساء ذلك اليوم أوقدت النيران والمشاعل والقناديل في المعسكر العثماني فانقلب الليل إلى نهار في توهج شديد، وتعالت صيحات المسلمين بالتهليل والتكبير، والأناشيد الحماسية ودقات الطبول.. وروعت هتافاتهم المتوالية المتصاعدة: لا إله إلا الله محمد رسول الله الأعداء وراء الأسوار، واستمر الاستعداد في المعسكر العثماني في اليوم الثاني بهذه الطريقة، يطوف الشيوخ والعلماء بين صفوف الجند يقرأون عليهم آيات الجهاد، وما أعد الله للشهداء من نعيم الجنة وحسن الجزاء. وفي صبيحة اليوم التالي 29 مايو في الساعات الأولى من الفجر بدأ الهجوم الإسلامي العام بدوي هائل من هتافات التهليل ودقات الطبول في جميع جهات البر والبحر واستطاع المدافعون أن يصدوا هجومين أوليين من جهة البر عند باب سان رومان أو طوب قبو باب المدافع وباب أدرنة، واستطاع أحد الجنود الانكشارية الضخم وهو حسن طوبال بالصعود مع رفاقه الثلاثين الفدائيين إلى أعلى السور أمام مطر منهمر من النبال والسهام، وراح سبعة عشرة من رفاقه ضحية هذه المحاولة البطولية الجريئة، ومع أنه أصيب بقذيفة، فظل يقاتل حتى قتل عندما انقض عليه عدد كبير من الجنود الأعداء.. ولكنه مهد السبيل بدمه للآخرين من الجنود الأتراك فصعدوا بالسلالم فوق السور، وكان السلطان محمد الفاتح يدير هذا الهجوم الأخير بنفسه بعد أن اخترق الخندق على متن جواده يحض جنوده ويشد أزرهم. إصابة القائد جستياني وسقوط المدينة على يد السلطان محمد الفاتح: وفي هذه الأثناء أصيب القائد جستياني بجرح في ذراعيه فانسحب من موقعه فوق السور، وركب سفينته الراسية في الميناء وغادر العاصمة الوشيكة السقوط إلى جزيرة لمنوس، وتكاثر الجنود العثمانيون فوق السور واستطاعوا بعد مقتلة عظيمة أن يفتحوا البوابة الكبيرة سان رومان فاندفع إليها الجنود المهاجمون كالسيل كما رفرفت الأعلام العثمانية من على السور من جهة باب أدرنة، وكذلك من جهة السور المواجه للقرن الذهبي، وجرى قتال عنيف إثر ذلك في شوارع المدينة، وسقط قسطنطين آخر الأباطرة البيزنطية صريعا كما سقطت عاصمته العتيدة للفاتحين الأتراك. استقرار الأمر للسلطان بعد ظهر هذا اليوم 29 مايو 1453م، دخل السلطان محمد راكبا جواده للمدينة المفتوحة، وتوجه إلى كنيسة آية صوفيا لعظيمة حيث كان كثير من أهالي المدينة قد تجمعوا خوفا على أرواحهم، ففتحت أبوابها للفاتح المسلم، وفوجئ الأهالي المذعورون بإذن الفاتح لهم في الاستمرار لصلاتهم ثم عفا عنهم. وحولت آية صوفيا إلى جامع، وارتفعت من فوق سطحها أصوات الله أكبر وأدى فيه أول صلاة جمعة. ثم دخل الفاتح قصر الإمبراطور حيث ردد في تأمل وهو يشعر بفناء مفاخر الدنيا الزائلة، ردد قول الشاعر: العنكبوت تنسج خيوطها في قصر القياصرة واليوم يسمع صداه على قباب الأكاسرة كان من آثار هذا الفتح أن اتحد كلا القسمين الجنوبي والشمالي أو الأسيوي والأوربي للدولة العثمانية .. وتحولت العاصمة العثمانية من أدرنة إلى القسطنطينية التي سميت في العهد العثماني بأسماء: إسلام بول أي مدينة الإسلام ودار السعادة، واسمها الرسمي الآستانة وفي العهد الكمالي قرر اسمها رسميا استنبول. وأصبحت القسطنطينية بعد ذلك قاعدة للأعمال العسكرية في الشرق والغرب، وسهل للعثمانيين أن يمدوا نفوذهم وسيادتهم إلى شواطئ البحر الأسود الشمالي وكييف حاليا في روسيا وإلى المجر واليونان، وألبانيا وسواحل البحر الأدرياتيكي الشرقية، وغلى شرقي البحر الأبيض المتوسط.