فتح مصر

السنة العشرون للهجرة النبوية أسباب الفتح: كان عمرو بن العاص قد عرض على الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه المسير لفتح مصر وأخذ يهون عليه ذلك ويبين له ما فيها من ثروات وخيرات إضافة إلى عدم استقرار الروم فيها بسبب خلافهم مع المصريين.. كذلك فإن الأرطبون الذي فر من الشام قد التحق بمصر وجمع إليه الجند وأعد العدة للقتال، وقد يزحف إلى فلسطين ثانية فتكون الشام عرضة للخطر .. وغزو مصر أفضل سبيل للدفاع عن الشام وتأمين الحدود، ومنطلقا جديدا للاستيلاء على ما تلاها من بلاد ونشر الدين السماوي في هذه البقاع. وبعد مشاورات قرر موافقة عمرو بن العاص في رأيه، والسماح له بغزو مصر، وقال له: إني مرسل إليك كتابا فإن أدركك وأمرتك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها أو شيء من أرضها فانصرف وإن دخلتها قبل أن يأتيك كتابي فامض واستعن بالله واستنصره خرج عمرو في ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل حتى وصل رفح وهناك أدركه كتاب أمير المؤمنين فتخوف عمرو من قراءته فلم يتسلمه وواصل سيره إلى داخل مصر وهناك قرأ الكتاب وقال لمن حوله بعد تأكده من دخول أرض مصر: إن أمير المؤمنين عهد إلي وأمرني إن لحقني كتابه ولم أدخل أرض مصر أن أرجع وإن لم يلحقني كتابه حتى دخلنا مصر فإنا نسير، فسيروا على بركة الله وعونه وعاد الرسول إلى عمر بن الخطاب يخبره بدخول ابن العاص أرض مصر. فتح العريش: لم يجد عمرو في العريش مقاومة لأن حصونها لم تكن من المناعة بمكان ولم يكن بها حامية رومانية فافتتحها ثم سار إلى الفرما. فتح الفرما: تحصن الروم بالمدينة واستعدوا لقتال المسلمين وقد علموا قلة عددهم وعددهم ولما وصل عمرو إليها حاصرها لمدة شهر فكان جنودها يخرجون إليه من حين لحين يقاتلون ثم يرتدون إلى مدينتهم يتحصنون بها، حتى رأى أميرها الخروج إلى ما وراء الأسوار لمقاتلة المسلمين، فالتقى بهم واقتتل الفريقين وجها لوجه .. واشتد القتال وظهرت عزائم المسلمين فارتد الروم إلى الحصون وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون حتى سبقوهم إلى باب المدينة فدخلوها واستولوا على حصونها، وهدم عمرو بن العاص أقوى معقل في حصونها، وأحرق السفن الراسية في المرفأ القريب منها، ثم اتخذها معقلا لتأمين الطريق إلى فلسطين. وكان هدم عمرو لحصون الفرما بسبب عدم وجود قوة كافية من جنده يبقيها في المدينة لحراستها وحتى لا يستفيد منها العدو إذا عاد لتملكها. فتح بلبيس: سار عمرو من الفرما بجيشه مع من التحق بهم من بدو الصحراء حتى أقام عمرو يحاصر مدينة بلبيس شهرا جرت فيها مفاوضة بينه وبين قبط المدينة وأمهلهم أربعة أيام لكن قائد الروم في المدينة الأرطبون لم يرض بهذا الوضع.. فعزم على مناجزة المسلمين وباغتهم بجيشه واشتد القتال بينهم حتى كانت الدائرة عليه فقتل وتمزق جيشه الذي بلغ إثنا عشر ألفا ودخل عمرو المدينة. حصن بابليون: حشد عمرو بن العاص قواته في المدينة مع ما جاءه من المدد فكان تعداد جيشه خمسة عشر ألفا. أما الروم فكان قائدهم تيودور قد قدم إلى حصن بابليون وجعل يحشد فيه الجنود من بلدان مصر السفلى حتى اجتمع إليه ما لا يقل عن عشرين ألفا عدا من كان في الحصون. فاستعدا الفريقان للقتال وعمل عمرو على الحيلة فأعد كمينين ، من خيرة الرجال المقاتلين وجعل أحدهما في غار يقال له غار بين وائل الآخر في مكان يقال له أم دنين. فلما التقى الفريقان ودار بينهم القتال الشديد وعلا غبار المعركة إذ أقبلت كتيبة الجبل المختبئة بغار بني وائل تجتاح مؤخرة الروم، ولما لم يكونوا على علم بها اضطربت صفوفهم وتقهقروا نحو ام دنين، عند ذلك خرج إليهم الكمين الآخر فأمعن فيهم قتلا وتأكدوا أنه جيش ثالث فخاب أملهم في المقاومة وانحل نظامهم وحلت بهم الهزيمة ففروا لا يلوون على شيء وسيوف المسلمين تلاحقهم وتعمل فيهم القتل، فالتجأ بعض الفارين إلى الحصن برا وركب البعض الآخر النهر متجها إلى الحصن وأغلقوا عليه الأبواب. حصار حصن بابليون وفتحه: شدد عمرو بن العاص الحصار على حصن بابليون، وكان في الحصن من قادة الروم المقوقس قيرس وهو القائد الأكبر وخليفة هرقل على مصر، والأعيرج وهو القائد الذي يدبر أمر الجنود، وكان الرمي بالمجانيق من قبل من في الحصن على المسلمين مستمرا وهم يردون عليهم بالحجارة والسهام، فلما أتموا الشهر جمع المقوقس مستشاريه وبين لهم ما هم فيه من ضيق مع اليأس من قدوم المدد الذي يرفع عنهم الحصار إضافة إلى إصرار المسلمين وتجربتهم السابقة معهم في فتوح الفرما وبلبيس حين قضوا على جيوشهم وهزموهم فقال: أليس خيرا لهم أن يفتدوا أنفسهم بالمال ليرحل هؤلاء العرب عنهم ولتعود مصر إلى ملك الروم؟ ومازال المقوقس يسوق الحجج في بيان ساحر حتى انضم الحاضرون جميعا إلى رأيه.. ثم توالت الرسل بين الفريقين استخدم فيها المقوقس معهم أساليب الإغراء والتخويف فلم يجد إلا جواب الأبطال الذين يحملون في قلوبهم الإيمان، ولم يأبوهوا بما عرضوه عليهم من المال في مقابل رجوعهم وحددوا الهدف من قدومهم ووضعوا شروطهم وأرسلوا بها إليهم. فاختلف الروم في الرد على شروط المسلمين وطلبوا أن يهادنهم العرب شهرا ليروا رأيهم، فأجابهم عمرو جوابا قاطعا لا مهلة أكثر من أيام ثلاثة. فحث عند ذلك المقوقس الناس على القتال وأبى جند الإمبراطور إلا الدفاع والمناجزة وعدم الاستسلام، فما انتهت أيام الهدنة الثلاثة حتى أخذ أهل الحصن يتجهزون للخروج إلى المحاصرين يناجزونهم ولم يبعثوا ردا إلى عمرو، وخرجوا إليه بغتة من فوق قناطرهم فأخذوا جنود المسلمين على غرة.. فأسرع المسلمون إلى سلاحهم وقاتلوا الروم قتالا شديدا وقاتلهم الروم يومئذ مستبسلين، واستمر المسلمون في القتال وتوارد إليهم من علم بالأمر فتكاثروا عليهم، فما استطاعوا إلا أن يتراجعوا إلى الحصن بعد أن قتلت منهم مقتلة عظيمة. ثم أقبل مع الزبير بن العوام جماعة يقودهم تحت جنح الليل إلى الحصن ووضعوا سلما على السور صعد عليه الزبير حتى وصل أعلاه فكبر وسيفه يلمع في يده وتبعه أصحابه إلى أعلى السور وكبروا معه، وارتاع الروم داخل الحصن ولم يشكوا في أن العرب قد اقتحموه فهربوا وعمد الزبير إلى باب الحصن ففتحه ودخله المسلمون. المسير إلى الأسكندرية: فتح نقيوس: عقد عمرو بن العاص العزم على المسير إلى الاسكندرية، وذلك أن حكم مصر لا يستقر حتى تفتح هذه المدينة فيأمن جانب البحر من أي هجوم أو امدادات من ناحية البحر، فكتب إلى أمير المؤمنين يستأذنه، فأمره بالمسير .. وسار يريد الاسكندرية وكانت على طريقه مدينة تدعي نقيوس وكانت مقر أحد كبار رؤوس الدين المسيحي ولها مكانة حربية كبرى في حفظ الطريق بين حصن بابليون والأسكندرية، فكان لابد للروم أن يجتمعوا هناك مرة أخرى للقاء العرب. فلما وصل عمرو قبالتها وأراد عبور النهر خرج أمير الحصن في جنده فركبوا سفنا أعدت للدفاع عن المدينة وحاولوا صد العرب ورآهم عمرو فأمر رجاله فرموهم بالنبل فاحتموا بالسفن إلا أنهم خافوا عبور المسلمين إليهم فأمر القائد الرومي ملاح السفينة التي كان بها فانطلقت مسرعا فرارا إلى الأسكندرية. ورأى الجنود أن قائدهم يفر عنهم ذلك الفرار فوضعوا سلاحهم وهبطوا إلى الترعة سراعا وقد أذهلهم الخوف، يريدون أن يقتحموها ليبلغوا السفن يحتمون بها، لكن الخوف جعل أصحاب السفن يفروا بسرعة شمالا يطلبون النجاة تاركين هؤلاء لمصيرهم، عند ذلك طلع عليهم المسلمين وهم في الماء بغير سلاح، فلم تبد منهم مقاومة، فدخلوا المدينة من غير مقاومة بعد أن خلت من المدافعين. فتح الأسكندرية: كانت قوة الأسكندرية نحوا من خمسين ألفا، وكانت الأقوات وفيرة فيها، لكونها على البحر والأسوار منيعة تحميها الآلات القوية .. فلما وصلها عمرو بن العاص ورأى حماس جنده أمرهم باقتحام أسوار المدينة وأبراجها فاندفعوا مهللين مكبرين، إلا أن المجانيق المنصوبة على الأسوار أخذت تقذفهم بوابل من الحجارة الكبيرة فارتدوا متباعدين عن مجال رميها وتراجع عمرو وانتظر خروج العدو ليقاتله. عسكر عمرو شرق المدينة فيما بين الحلوة وقصر فاروس وقد أدرك أن مهاجمة المدينة ليست بالأمر الهين فالبحر يحميها من الشمال وبحيرة مريوط تحميها من الجنوب واجتيازها عسيرا وترعة الثعبان تدور حولها من الغرب والطريق الوحيد باتجاه كريون محصنا. أخذ عمرو بن العاص يفكر في خطة يفتح بها الأسكندرية ثم دعا عبادة بن الصامت فعقد له ففتح الله على يديه الأسكندرية في يومه ذاك، حيث دخل المسلمون الاسكندرية عنوة فاقتحموا أسوارها وفتحوا بابها ففر الروم إلى البر والبحر وأذعن لهم سكان العاصمة وأسلموهم مقاليدها ثم استخلف عمرو على الأسكندرية عبد الله بن حذافة السهمي في رابطة من المسلمين وانصرف إلى الفسطاط. وبذلك استقر حكم مصر للمسلمين ودب الأمن والطمأنينة فيها .