فتح أنطاكية

أنطاكية مدينة عظيمة كبيرة تقع غربي مدينة حلب على نهر العاصي قريبا من مصبه في البحر المتوسط وهي تعادل القسطنطينية، وقد كانت ضمن أعمال سوريا فلما ذهب الاحتلال الفرنسي وحصل التقسيم أصبحت تحت الإدارة التركية. كان المسلمون قد افتتحوا أنطاكية سنة 291هـ في عهد الخليفة العباسي المكتفي بالله، وقد حاول الروم عدة مرات الاستيلاء على المدينة واستعادتها نظرا لأهميتها، فهاجموها سنة 357 هـ لكنهم لم يتمكنوا من أخذها، فعاودوا مهاجمتها في عام 359هـ في عهد ملكهم نقفور، واستطاعوا هذه المرة الاستيلاء عليها، وضموها إلى ملكهم بعد أن قتلوا الشيوخ والرجال، وسبوا النساء والأطفال، و ذلك أثناء حملتهم الصليبية المشهورة وكان استيلاؤهم عليها في جمادى الأولى من تلك السنة، بعد حصار شديد وبمواطأة بعض المستحفظين على بعض الأبراج، وقد هرب أميرها باغيسيان في نفر يسير، وترك بها أهله وماله، ثم إنه ندم في أثناء الطريق ندما شديدا على ما فعل، بحيث إنه غشى عليه وسقط عن فرسه، فلما رأى ذلك أصحابه الذين كانوا معه، ذهبوا وتركوه خوفا على أنفسهم أن يدركهم الفرنج فيقتلونهم، فجاء راعي غنم فقطع رأسه وذهب به إلى ملك الفرنج. وقد حاول المسلمون استعادة هذه المدينة لما بلغهم الخبر، فقد قام الأمير كربوقا صاحب الموصل بجمع عساكر كثيرة، واجتمع إليه دقاق صاحب دمشق وجناح الدولة صاحب حمص وغيرهم، وسار إلى الفرنج فالتقوا معهم بأرض أنطاكية، فهزمهم الفرنج، وقتلوا منهم خلقا كثيرا وأخذوا منهم أموالا جزيلة، ولم يستطع أحد من الأمراء المسلمين خلال هذه الفترة استعادة هذه المدينة، فظلت المدينة تحت حكم الصليبين مع كثرة المحاولات لذلك. وأصبحت قاعدة عسكرية لهم، وولاية أساسية من ولايتهم في الشام، فلما جاء التتار إلى بلاد الشام كان عليها رجل من الإفرنج يقال له الأغريس وهو في نفس الوقت صاحب مدينة طرابلس، فمالأ التتار وأعانهم على المسلمين وحصل للمسلمين في الشام منه أذية عظيمة بل أصبح من أشد الناس إيذاء لهم . فلما تولى الظاهر بيبرس السلطنة أخذ على عاتقه تطهير بلاد الشام من الإفرنج فخرج عدة مرات بعساكره وجيوشه لقتالهم ابتداء من سنة 663 هـ حيث فتح قيسارية ومدينة صغد التي سبق للملك صلاح الدين الأيوبي أن افتتحها سنة 584 هـ ثم استعادها الإفرنج مرة ثانية فاستعادها منهم ثم خرج بعد ذلك واستولى على بلاد السوس وغيرها من البلاد الإسلامية التي تحت يد الإفرنج . فلما كانت سنة 666 هـ خرج السلطان ببيرس في أول جمادى الآخرة من الديار المصرية بالعساكر والجيوش فنزل على مدينة يافا بغتة فأخذها عنوة وسلم إليه أهلها القلعة صلحا، فأجلاهم منها إلى عكا وخرب القلعة والمدينة، وسار منها إلى حصن الشقيف فاستولى عليه في التاسع والعشرين من شهر رجب، ثم ركب في مجموعة من عسكره وهاجم طرابلس وأعمالها، فنهب وقتل وأرعب ورجع مؤيدا منصورا، وهذه المدن والحصون كلها كانت تحت يد الإفرنج. ثم إنه جمع جيوشه وسار حتى نزل على مدينة أنطاكية وأحاط بها من كل جانب، وذلك في مستهل شهر رمضان المبارك، وبدأ في حصارها فنزل إليه أهلها يطلبون الأمان واشترطوا شروطا له عليهم، فأبى الملك الظاهر ببيبرس ذلك، ورفض عرضهم وردهم خائبين، وصمم على فتح المدينة عنوة، فحاصرها أشد الحصار وضيق عليهم وظل كذلك حتى يوم السبت الرابع عشر من شهر رمضان، حيث أنزل الله نصره على المسلمين ففتحوا المدينة عنوة وغنم المسلمون منها غنائم لا تعد ولا توصف، ووجدوا فيها من أسارى المسلمين من الحلبيين وغيرهم خلقا كثيرا، كل هذا في مقدار أربعة أيام وعادت هذه المدينة إلى ملك المسلمين وتبع ذلك استلام حصون كثيرة وقرى كانت خاضعة لهم وعاد بعدها السلطان إلى دمشق مؤيدا منصورا .