شهر الصيام .. فوائد وحكم !!

الحمد لله مدبر الليالي والأيام، ومصرف الشهور والأعوام، الملك القدوس السلام، المتفرد بالعظمة والبقاء والدوام، المتنزه عن النقائص ومشابهة الأنام، يرى ما في داخل العروق وبواطن العظام، ويسمع خفي الصوت ولطيف الكلام، إله رحيم كثير الإنعام. ورب قدير شديد الانتقام، قدر الأمور فأجراها على أحسن نظام. وشرع الشرائع فأحكمها أيما إحكام. بقدرته تهب الرياح ويسير الغمام وبحكمته ورحمته تتعاقب الليالي والأيام. أحمده على جليل الصفات وجميل الإنعام. وأشكره شكر من طلب المزيد ورام. وأشهد أن لا إله إلا الله الذي لا تحيط به العقول والأوهام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الأنام صلى الله وسلم وعلى صاحبه أبي بكر السابق إلى الإسلام، وعلى عمر الذي إذا رآه الشيطان هام، وعلى عثمان الذي جهز بماله جيش العسرة وأقام، وعلى علي البحر الخضم والأسد الضرغام، وعلى سائر آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان على الدوام، وسلم تسليما: عباد الله: الله جل وعلا له الحكمة البالغة اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه له الحكم التام والحكمة البالغة فيما خلقه وفيما شرعه، فهو الحكيم في خلقه وفي شرعه، لم يخلق عباده لعبا، ولم يتركهم سدى، ولم يشرع لهم الشرائع عبثا، بل خلقهم لأمر عظيم، وهيأهم لخطب جسيم، وبين لهم الصراط المستقيم، وشرع لهم الشرائع يزداد بها إيمانهم، وتكمل بها عبادتهم، فما من عبادة شرعها الله لعباده إلا لحكمة بالغة، علمها من علمها وجهلها من جهلها، وليس جهلنا بحكمة شيء من العبادات دليلا على أنه لا حكمة لها، بل هو دليل على عجزنا وقصورنا عن إدراك حكمة الله سبحانه (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)، الإسراء:85. وقد شرع الله العبادات ونظم المعاملات ابتلاء وامتحانا لعباده ليتبين بذلك من كان عابدا لمولاه ممن كان عابدا لهواه، فمن تقبل هذه الشرائع وتلك النظم بصدر منشرح ونفسه مطمئنة فهو عابد لمولاه، راض بشريعته مقدم لطاعة ربه على هوى نفسه، ومن كان لا يقبل من العبادات، ولا يتبع من النظم إلا ما ناسب رغبته، ووافق مراده فهو عابد لهواه، ساخط لشريعة الله، معرض عن طاعة ربه، جعل هواه متبوعا لا تابعا، وأراد أن يكون شرع الله تابعا لرغبته مع قصور علمه وقلة حكمته: ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون)، المؤمنون:71. ومن حكمة الله سبحانه أن جعل العبادات متنوعة ليتمحص القبول والرضى (وليمحص الله الذين آمنوا)، أل عمران:141. موقف الناس من العبادات فإن من الناس من قد يرضى بنوع من العبادات ويلتزم به، ويسخط نوعا آخر ويفرط فيه، فجعل الله من العبادات ما يتعلق بعمل البدن كالصلاة، ومنها ما يتعلق ببذل المال المحبوب إلى النفس كالزكاة، ومنها ما يتعلق بعمل البدن وبذل المال جميعا كالحج والجهاد، ومنها ما يتعلق بكف النفس عن محبوباتها ومشتهياتها كالصيام، فإذا قام العبد بهذه العبادات المتنوعة وأكملها على الوجه المطلوب منه دون سخط أو تفريط فتعب وعمل وبذل ما كان محبوبا إليه وكف عما تشتهيه نفسه طاعة لربه وامتثالا لأمره ورضا بشرعه كان ذلك دليلا على كمال عبوديته وتمام انقياده ومحبته لربه وتعظيمه له فتحقق فيه وصف العبودية لله رب العالمين. حكم الصيام إذا تبين ذلك فإن للصيام حكما كثيرة استوجبت أن يكون فريضة من فرائض الإسلام وركنا من أركانه. فمن حكم الصيام: أنه عبادة لله تعالى يتقرب العبد فيها إلى ربه بترك محبوباته ومشتهياته من طعام وشراب ونكاح فيظهر بذلك صدق إيمانه وكمال عبوديته لله وقوة محبته له ورجائه ما عنده، فإن الإنسان لا يترك محبوبا له إلا لما هو أعظم عنده منه، وملا علم المؤمن أن رضا الله في الصيام بترك شهواته المجبول على محبتها قدم رضا مولاه على هواه فتركها أشد ما يكون شوقا إليها؛ لأن لذته وراحة نفسه في ترك ذلك لله عز وجل، ولذلك كان كثير من المؤمنين لو ضرب أو حبس على أن يفطر يوما من رمضان بدون عذر لم يفطر، وهذه الحكمة من أبلغ حكم الصيام وأعظمها. ومن حكم الصيام: أنه سبب للتقوى كما قال سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، البقرة: 183، فإن الصائم مأمور بفعل الطاعات واجتناب المعاصي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، وإذا كان الصائم متلبسا بالصيام فإنه كلما هم بمعصية تذكر أنه صائم فامتنع عنها؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم- الصائم أن يقول لمن سابه أو شاتمه: إني امرؤ صائم، تنبيها له على أن الصائم مأمور بالإمساك عن السب والشتم، وتذكيرا لنفسه بأنه متلبس بالصيام فيمتنع عن المقابلة بالسب والشتم. الصيام يساعد القلب على التخلي للذكر والفكر ومن حكم الصيام: أن القلب يتخلى للفكر والذكر، لأن تناول الشهوات يستوجب الغفلة وربما يقسي القلب ويعمي عن الحق، ولذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى التخفيف من الطعام والشراب، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه). وفي الحديث أن حنظلة الأسيدي- وكان من كتاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال للنبي-: نافق حنظلة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: (وما ذاك؟) قال: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والضيعات فنسينا كثيرا، وفيه: ) ولكن يا حنظلة ساعة وساعة) ثلاث مرات، وقال أبو سليمان الدراني: إن النفس إذا جاعت وعطشت صفا القلب ورق وإذا شبعت عمي القلب. ومن حكم الصيام: أن الغني يعرف به قدر نعمة الله عليه بالغنى حيث أنعم الله تعالى عليه بالطعام والشراب والنكاح وقد حرمها كثيرا من الخلق فيحمد الله على هذه النعمة ويشكره على هذا التيسير، ويذكر بذلك أخاه الفقير الذي ربما يبيت طاويا جائعا فيجود عليه بالصدقة يكسو بها عورته ويسد بها جوعته، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم- أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن. الصيام تمرين على ضبط النفس والسيطرة عليها ومن حكم الصيام: التمرن على ضبط النفس، والسيطرة عليها، والقوة على الإمساك بزمامها حتى يتمكن من التحكم فيها ويقودها إلى ما فيه خيرها وسعادتها، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، فإذا أطلق المرء لنفسه عنانها أوقعته في المهالك، وإذا ملك أمرها وسيطر عليها تمكن من قيادتها إلى أعلى المراتب وأسنى المطالب. ومن حكم الصيام: كسر النفس والحد من كبريائها حتى تخضع للحق وتلين للخلق، فإن الشبع والري ومباشرة النساء يحمل كل منها على الأشر والبطر والعلو والتكبر على الخلق وعن الحق، وذلك أن النفس عند احتياجها لهذه الأمور تشتغل بتحصيلها، فإذا تمكنت منها رأت أنه ظفرت بمطلوبها فيحصل لها من الفرح المذموم والبطر ما يكون سببا لهلاكها، والمعصوم من عصمه الله تعالى. ومن حكم الصيام: أن مجاري الدم تضيق بسبب الجوع والعطش فتضيق مجاري الشيطان من البدن، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر سورة الشهوة والغضب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، فجعل الصوم وجاء لشهوة النكاح وكسرا لحدتها. ومن حكم الصيام: ما يترتب عليه من الفوائد الصحية التي تحصل بتقليل الطعام وإراحة جهاز الهضم لمدة معينة وترسب بعض الرطوبات والفضلات الضارة بالجسم وغير ذلك. فما أعظم حكمة الله وأبلغها وما أنفع شرائعه للخلق وأصلحها. الله فقهنا في دينك وألهمنا معرفة أسرار شريعتك، وأصلح لنا شؤون ديننا ودنيانا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.