رمضان شهر الانتصارات (فتح مكة)

كان من ضمن شروط صلح الحديبية أن من شاء أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل، ومن شاء أن يدخل من عهد قريش وعقدها دخل، فدخلت قبيلة خزاعة في عهد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده، ودخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، فمكثوا على ذلك نحوا من ثمانية عشر شهرا، وكان بين بني بكر وخزاعة ثأر قديم. فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر، وأرادوا أن يصيبوا ثأرا من خزاعة بأولئك النفر الذين أصابوا منهم ببني الأسود بن رزن، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل، (وهو يومئذ قائدهم) وليس كل بني بكر تابعه، حتى يبت خزاعة وهم على الوتير: ماء لهم، فأصابوا منهم رجلا واقتتلوا وأمدتهم قريش بالسلاح والعتاد، وقاتل منهم من قاتل بالليل خفية، ونقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. استغاثة خزاعة بالنبي صلى الله عليه وسلم انطلق عند ذلك عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخل عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس، فقال أبيات شعر يستنجد بالنبي عليه الصلاة والسلام وكان مما قاله: يا رب إني ناشد محمدا ??? حلف أبينا وأبيه الأتلدا قد كنتم ولدا وكنا والدا ??? ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا فانصر هداك الله نصرا أعتدا ??? وادع عباد الله يأتوا مددا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصرت يا عمرو بن سالم فلم يبرح حتى مرت سحابة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب ثم إن قريشا ندمت على فعلها هذا فاتفقوا على أن يذهب أبو سفيان إلى المدينة لتجديد العهد. فخرج أبو سفيان حتى قدم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر. ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه شيئا. تجهز النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهله بالجهاز ولم يسم لهم الجهة التي يقصدها، ثم أعلمهم بعد ذلك أنه سائر إلى مكة وأمرهم بالجد والتهيؤ وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها، فتجهز الناس، وقال حسان في ذلك شعرا يحرض الناس ويذكر مصاب خزاعة. واستنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم القبائل التي حول المدينة، فمنهم من جاءه وهو في المدينة ومنهم من لحق به وهو على الطريق. جيش المسلمين وقصة حاطب بن أبي بلتعة وبلغ عدد جيش المسلمين الذين تجهزوا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاء معهم من القبائل عشرة آلاف مقاتل، ولم يتخلف أحد من المهاجرين والأنصار. وكان حاطب بن أبي بلتعة وهو ممن شهد غزوة بدر (لما عزم النبي صلى الله عليه وسلم على الخروج) أرسل كتابا مع امرأة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء الخبر من السماء للنبي صلى الله عليه وسلم فبعث عليا والزبير والمقداد في أثرها وقال لهم انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها وعندما أدركوها في المكان المشار إليه، طلبوا منها إخراج الكتاب فأنكرت وجوده معها، فقالوا: لها لتخرجن الكتاب أو لنلقين بالثياب، فأخرجته فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حاطب فقال له: يا حاطب ما هذا ؟ قال: يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرءا ملصقا في قريش حليفا، ولم أكن من أنفسها، وكان معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون أهليهم، وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقكم، فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. فأنزل الله الآيات يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق إلى قوله فقد ضل سواء السبيل وفي رواية: فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم. خروج النبي صلى الله عليه وسلم بالجيش وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة إلى مكة في العاشر من رمضان سنة ثمان من الهجرة وقد بلغ عددهم عشرة آلاف مقاتل وكانوا صياما، حتى بلغوا كديدا، فأفطر وأفطر الناس. واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري. وقيل عبد الله بن أم مكتوم والأول أصح. وسار الجيش حتى وصل مر الظهران وهو قريب من مكة، وقد عميت الأخبار على قريش فلا يصل إليهم شيء، ولا يدرون ما النبي صلى الله عليه وسلم فاعل. وكان نزوله عليه الصلاة والسلام عشاء، فأمر الجيش فأوقدوا النيران فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه قصة إسلام أبو سفيان بن حرب وكان أبو سفيان وبديل بن ورقاء يخرجان كل يوم يتحسسان الأخبار، فلما رأيا جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو سفيان: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا. وظل يتراجعان الكلام فسمعهما العباس بن عبد المطلب، وكان قد خرج قبل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه ببعض الطريق، فهاله ما رأى وخاف على قريش أن تقتل إذا لم تطلب الأمان من النبي صلى الله عليه وسلم . فلما لقي أبا سفيان قال له: يا أبا حنظلة (قال العباس: فعرف صوتي) فقال: أبو الفضل؟ قلت: نعم. قال: مالك فداك أبي وأمي؟ قلت ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله. قال: فما الحيلة ؟ قلت والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك. فركب خلفي ورجع صاحباه. فجئت به كلما مررت بنار من نيران رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: من هذا ؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها، قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته. حتى مررت بنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: من هذا ؟ وقام إلي. فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدو الله الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد. ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وركضت البغلة فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء، فاقتحمت عن الدابة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عمر عليه فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه. قلت: يا رسول الله إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه فقلت: والله لا يناجيه الليلة دوني رجل. فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلا يا عمر فوالله لو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف فقال: مهلا يا عباس فلإسلامك يوم أسلمت، كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به. فلما كان الصباح عرض عليه الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلم بعد تردد. ثم قال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا. قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عباس احبسه على مضيق الوادي حتى تمر به جنود الله. قال: فخرجت فحبسته كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرت القبائل على راياتها كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هذه ؟ فأقول سليم. فيقول: ما لي ولسليم. ثم تمر القبيلة فيقول: يا عباس من هؤلاء ؟ فأقول مزينة. فيقول ما لي ولمزينة. حتى نفذت القبائل، ما تمر قبيلة إلا يسألني عنها، فإذا أخبرته بهم قال: ما لي ولبني فلان حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد فقال: سبحان الله يا عباس من هؤلاء ؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة. والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما. قلت يا أبا سفيان إنها النبوة قال: فنعم إذن. قلت: النجاء إلى قومك. فأسرع إلى قريش حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبا سفيان فهوآمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم له فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد. دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة وتمام الفتح ثم استعد النبي صلى الله عليه وسلم لدخول مكة وجهز جيشه وقسمه وجعل على قسم أميرا وجعل له راية وكان سعد بن عبادة هو حامل راية الأنصار فبلغه أنه يقول: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل هذا يوم يعظم في الله الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة. وأخذ الراية من سعد ودفعها إلى ابنه قيس. فطلب منه سعد أن يعطيها لآخر غير ابنه مخافة أن يبدر منه شيء فأعطاها الزبير. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من أعلاها خاشعا شاكرا، يقرأ سورة الفتح ويرجع في قراءتها وهو على راحلته، ولم يلق كيدا، باستثناء مع حصل مع خالد بن الوليد والذي دخل مكة من أسفلها حيث التحم مع بعض الجموع البسيطة، كان بعض كفار قريش قد أعدها، بقيادة عكرمة بن أبي جهل وغيره فاستشهد اثنان من فرسان المسلمين، وقتل من المشركين على ما ذكر اثنا عشر رجلا. هذا وقد استثنى النبي صلى الله عليه وسلم قبل دخوله مكة، أربعة رجال وامرأتين من الأمان الذي أعلنه لقريش، فأمر بقتل هؤلاء ولو كانوا معلقين بأستار الكعبة، وهم عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن أخطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن أبي السرح، وفرتنى وسارة جاريتا ابن خطل، وذلك لشدة الأذى الذي لحق المسلمين منهم. وقد قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، وقتل مقيس في سوق مكة، وكذلك إحدى جاريتي ابن خطل، واختفى عكرمة وابن سعد حتى ضمنا الأمان من الرسول صلى الله عليه وسلم. وأعلن النبي صلى الله عليه وسلم الأمان والعفو عن أهل مكة، عندما قال قولته المشهور بعد أن اجتمعوا عند الكعبة ينتظرون حكمه فيهم، فقال: ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. فقال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم اذهبوا فأنتم الطلقاء. وكان هذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم نتيجة لما نزل من القرآن وهو قوله تعالى وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين فقال: نصبر ولا نعاقب. فاختار العفو تفضلا وإحسانا. نزول النبي صلى الله عليه وسلم وتطهير البيت من الأصنام ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بقبة ضربت له بالحجون، في المكان الذي تعاقدت به قريش على مقاطعة بني هاشم والمسلمين، لأن داره قد أخذها عقيل بن أبي طالب وهو لا يرثه لأنه كافر، وكذلك لم يرث علي وجعفر شيئا من الدور لأنهما مسلمين وأبوهما مات كافرا، إضافة إلى أن عقيلا وطالبا قد باعا كل الدور. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتطهير البيت الحرام، بإزالة الأصنام عنه وشارك بيده في تكسيرها أثناء طوافه بالبيت، وهو يقول وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا (سورة الإسراء) وكان عددها ستين وثلاثمائة صنم. ودعا بعثمان بن شيبة فأخذ منه مفاتيح الكعبة، ففتحت له فدخلها، فوجد فيها صورة لإبراهيم وهو يستقسم بالأزلام وكذلك إسماعيل وإسحاق، فقال: قاتلهم الله ما كان إبراهيم يستقيم بالأزلام، وأمر بإزالة هذا كله، بالإضافة إلى تكسير الحمامة الموجودة فيها، ثم صلى فيها ركعتين. وقد روى ابن سعد عن عثمان بن طلحة قال: كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فأغلظت له ونلت منه فحلم عني ثم قال يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي، أضعه حيث شئت. فقلت: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت. فقال: بل عمرت وعزت يومئذ، ودخل الكعبة فوقعت كلمته مني موقعا، ظننت يومئذ أن الأمر سيصير إلى ما قال. فلما كان يوم الفتح قال: يا عثمان ائتني بالمفتاح فأتيته به فأخذه مني ثم دفعه إلي، وقال: خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف. قال: فلما وليت ناداني فرجعت إليه فقال: ألم يكن الذي قلت لك؟ قال: فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة لعلك سترى هذا المفتاح بيدي أضعه حيث شئت. فقلت: بلى أشهد أنك رسول الله. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يؤذن فصعد على ظهر الكعبة فأذن عليها فقال بعض بني سعيد بن العاص: لقد أكرم سعيدا إذ قبضه قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة. وقال بعض زعماء قريش نحو هذا الكلام. وقد كان دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث وعشرين خلت من رمضان وقيل غير ذلك واتفق الجميع على أنه كان في رمضان.