صحوة

تغفو الأرواح عند الفجر وتستيقظ حبات الندى المتلألئة لتغسل وجنات الزهر الوردية وأجفان الشجر الخضراء.. وتطرز خيوط الفجر الذهبية أطراف عباءة الليل السرمدية. إنها الشمس تطل من خلف ذلك الجبل الأسمر وتبعثر غدائر شعرها الأشقر على الكون، فتخترق النوافذ وتداعب الأهداب الناعسة لتوقظها، جلست على شرفة منزلي وألقيت نظرة خائفة على الشمس جالسة على حافة الجبل ثم غضضت الطرف خشية أن تستاء من مراقبتي لها فتسرق الدمع من عيناي وفضلت مراقبة العالم يستيقظ ويفتح صفحة جديدة في كتاب الحياة ويبدأ بقراءة كلماتها الأولى. إنه قادم يخفي في جيوب معطفه القديم يسير ببطء كأنما أثقلت هموم الحياة كاهله، نعم منظر هذا الشاعر لا يكتمل إلا بوجوده، لقد أصبح جزءا خاما من أجزائه كتلك لشجرة الباسقة كحجارة الرصيف التي ملت الرقود تحت أقدام المارة، لا أدري من أين جاء؟ وكيف جاء؟ كل ما أدريه أنه يجلس على حافة حجرية عند الزاوية منذ عدة أعوام وذلك الدفتر ملتصق بكفه كأنه لا يستطيع التخلص منه حتى لو ود ذلك.. لشد ما يدهشني فيه برودة أعصابه التي جلبته إلى العالم ممزوجة بسخرية على أولئك الذين يخضعون لمشيئة الدواليب الزرقاء حتى أضحت أرقامها تنظم لهم حياتهم وتنسج أحلامهم بخيوط واهية، ونادرا ما كنت أصطاد حزنا عارما يجتاح أساريره.. لكنه اليوم على غير عادته.. ينظر بغضب إلى الأوراق في يده حتى خلت للوهلة الأولى أنه سيمزقها بأسنانه. ثم يغرق هذا الغضب في خضم أسئلة لا أجوبة لها.. فسند رأسه إلى الجدار تاركا لتلك الأسئلة حرية اختيار نهايتها. لقد طال سكونه حتى ظننته توفي لولا بعض الحركات التي يقطع دابر السكون بها فتارة يمسك بأوراق اليانصيب بقوة وتارة تزول قواه كـأنه يتوسل إليها أن ترحل عنه إلى الأبد لا يلبث أن يحكم قبضته عليها أكثر فأكثر كأنها قدرة الذي لا مفر منه. ربما يحاكم نفسه .. إلى متى سيبقى من تجار الحظ والأحلام؟ إلى متى سيبقى واهما بأنه يعمل وينتظر قدوم الرزق إليه.. ثم ينتصب بسرعة لعله ينتظر صدور الحكم.. لقد استطعت أخيرا أن أفك رموز تلك التعابير العشوائية التي تعلو وجهه واكتشفت قراره قبل ان يفصح عنه.. لقد قرر التغلب على الظروف التي أوصلته إلى زوايته هذه وصنع الحاضر والمستقبل بيدين حديدتين وتحرك راميا أوراق الحظ على عرشه الحجري.. ويسير بخطى ثابتة رافع الرأس.. تعلو شفتيه ابتسامة غريبة لم ألمحها قبلا على شفتيه لذا لم أعرف لها مغزى. ولكنني عرفت أنه راض عن قراره فخور بصحوته. لم يتراجع ولم ينظر خلفه إلى تلك الأيادي الممتدة لالتقاط ذلك الدفتر والمتدافعة للفوز بعمله فغادرت مكاني وأنا أتساءل هل علي أن أنتظر لعدة سنوات أخرى لأرى هل سأشهد الصباح صحوة جديدة أم لا؟