هكذا كان حلمك

كغيرك .. من الناس، تحاول بين حين وآخر أن ترحل بمشاعرك ووجدانك .. ترحل بعيدا في آفاق الزمان.. إلى حيث طفولتك وما تحتويه تلك الطفولة من عذوبة وعفوية وبراءة. وترحل كذلك إلى حيث شبابك الأول بكل ما يتميز به من عنفوان وأحلام وطموحات. تغترب أحيانا عن حاضرك ولحظاتك الآنية التي تعيشها لا هربا من الحاضر، وإنما حنينا واشتياقا إلى ماض راح وانتهى ولن يعود أبدا إلا من خلال الذكريات والأفكار. والتي تعتبر نعمة كبيرة لا يستأثر بها إلا الإنسان على هذه الأرض. ها أنت الآن تتوحد مع وجدانك وتتفرد مع ذاتك، وتتحول إلى حالة روحية متميزة، بعد أن تهاجر من جسدك وزمانك الحاليين، فترى نفسك على غير الصورة التي أنت فيها الآن.. ترى نفسك طفلا غضا يحبو على دروب الحياة خطوة إثر خطوة، ويتلمس معالمها ومجاهلها شيئا فشيئا، ثم ترى نفسك فتى يافعا تتوسع مدارك الرؤيا أمامه يوما بعد يوم، ويتخذ لنفسه مفرات خاصة به تعينه على أن يبصر المستقبل بشيء من الوضوح. مرت عجلات الزمن على قسمات وجهك خلال خمسين عاما أو يزيد، وها أنت الآن تعيش طفولتك الأخيرة في دنياك الواسعة، هكذا كان موقفك من الحياة دائما، إنها طفولة مستمرة ولكنها ذات مراحل متنوعة، وما بين الطفولة الأولى والطفولة الأخيرة تاريخ طويل من التعب والعناء والدأب والحب والأمل والطموح. هذه هي الكلمات والمفاهيم التي يتكئ عليها الإنسان عندما يصنع تاريخه وحياته. وها أنت الآن تعود بذاكرتك إلى الأرض التي حضنت طفولتك الأولى وريعان شبابك، فيهتز في خلايا بدنك ذلك الحنين الأبدي الخالد، فعلى ثراها.. ثرى تلك الأرض تعلمت كيف ترسم دفء الحياة ومعانيها، وتعلمت كيف تجعل نبضات فؤادك قادرة على أن تكتب حروف المحبة على شفاهك وعلى شغاف قلبك. كانت لك أحلامك الجميلة، وكانت للآخرين من حولك أحلامهم الجميلة أيضا، ولكي تصبح الحياة أجمل وأقوى، بدأتم تصيغون معا أحلامكم المشتركة في حلم واحد، وأخذت بصائركم تتلمس خارطة الوطن الذي يمتد من الماء إلى الماء، في حالة من الوجد، فأي حلم أعمق وأجل من ذلك الحلم الذي اتخذ من عشق البلاد ركيزة وانطلاقا له نحو آفاق المستقبل. وهكذا أخذ العلم التي تمت صياغته في الضمائر، يتجدد في النفوس ويحلق عبر الجهات الأربع، ويتحول عبر أطواره الثلاث، من حلم في طوره الأول إلى إشراقة أمل في طوره الثاني ثم إلى واقع في طوره الثالث. رأيتك في كل الأحوال تعيش الوطن شعرا، وتجعل من أوردتك أقلاما تسجل بها جغرافية ذلك الوطن وتاريخه فتحاكي سهوله وجباله وقمحه وزيتونه ومطره وأنهاره، وتطرب لكفاحه وأمجاده. ولكن دمعة العينين تحرق فؤادك حزنا وأسى كلما رأيت جائحة من هنا وأخرى من هناك تحاول أن تنال من ثرى أرضه ومن مصيره ووجوده. هكذا رأيتك تحمل الوطن في حناياك وتخشى عليه من غوائل الدهر وتحافظ على حلمك العربي الذي صغته بدمائك ولا بقاء لك إلا وأنت تحمله نبضا مستمرا في شرايين فؤادك.