من زمن المطر

من البحر كانت تجئ السفن غصى بالبضائع والغرباء.. ومن الغرب كانت الريح البحرية المثقلة بالغيوم تنهض كقبائل مهاجرة.. وفي المدى الغضاري المعتكر تعلو الطيور في جوقة الذعر.. والشاطئ يتمرغ برذاذ الموج والمطر.. ومن الغرب كان يجيء الحزن، ويتغلغل في الثياب والأوردة. على صخرة سواها الموج والصيادون والمعاول والأقدام كنت أجلس وحيدا مقرورا أرقب ذلك الجمال الوحشي: مطر ينتظم على الشاطئ متساقطا كمسامير طويلة، وحين تعصف الريح كان يتأود وينحني خيوطا من فضة مقوسة.. والمدينة تمتد مقبرة من البيوت المرمية في جوار البحر، تختنق بالبخار والبرد والأدخنة.. كان الموج يتعاقب كخيول بيض تشرئب فوق حواجز متلاحقة، وعند الصخور يتكسر ويرتد في هياج جاهلي، كأنه أعجاز نخل منقعر .. ملتفا بغطاء من النايلون الرقيق . كنت امسك بالقصبة والسنارة.. وحيدا غارقا في تقوى الذهول وأنا أرتعد.. لم يكن الخروج من قبضة المدينة أوفر حظا، ولم يكن في ذلك العالم الصغير من عزاء سوى الحذاء المطاطي المبطن الذي أعارنيه أخي قبل أن يرحل. كان يحاورني إحساس غامض بعبثية الحياة لم أستطع مرة صياغته بلغة واضحة، لكنه كان يعاود الحوار على هيئة تجليات شبيهة بالوهم والكوابيس، أو تهيؤات مشحونة بالوساوس، فمع الغروب كانت طيور المساء تتنادى وتقلع إلى مبيت جماعي.. وكثيرا ما كانت تعاجلها الرياح الحواشك، تتعاودها بالرذاذ والملح والإعصار، فتعمى وهي تنقض لتلوذ بالأرض أو تحتمي بالشجر.. وعلى أسلاك الهاتف والكهرباء كان يهوي بعضها صريعا، ويبترد دمه الحار.. في الليالي الساكتة تحت وقع المطر، بعد أن يناموا، كنت أعيد كتابة المكان.. تملي علي الذاكرة تفاصيله وخلقه فيحضر على الورق الليلي.. أعيد رسم الزوارق المتقلقلة في الميناء، وأعد السفن والطيور والأسماك.. تتناهى إلى دفتري الصغير أصوات الصيادين، وأرقبهم يعصرون ثيابهم الطافحة بالماء.. بغتة كان يجلجل الرعد البحري، وتشهق السماء بنيران البرق والصعق.. وعلى صهوات الريح والمدى يتجاوب الصدى .. وشيئا فشيئا كان يتراخى نسيج الليل المنشور، وعلى الورق تتضاغط تجليات كتاب النهار، وتتزاحم في الصدور الأصوات والرؤى. ترحل من الذاكرة الأماكن بلا توديع، وتبقى قدماي دافئتين في مغاص الحذاء المطاطي المبطن.. تنعس على سرير الورق حرارة الأسئلة، وفي أناة وأسى تتجمع الكلمات، والرسوم والخطوط وتتمزق بين الأصابع كي لا يرى بؤسها أحد.. تعيد الشتاءات قص الحكاية بصوت جديد، وينهض الغيم بماء بحري آخر، ويفيض فم الليل بالأسئلة.. ثم تختبئ في سلة المهملات مزق أخرى من الأوراق المجهدة.. يا لمصابيح تلك الأيام التي لا تنطفئ!!. كتبت مرة لأستاذ اللغة، العتيق كمحراث قديم: كان يهمي على الشاطئ مطر عاقل جميل، وبهجة عاشقين خلين تتهادى بخطاهما، وتقف دفأى بين الشفاه.. ومن على كتفيهما تفر غمغمة ضحكات ثم تخفق عصافير وفراشات ونجوما بعيدة في ليل قريب. وكلما جأرت في الميناء سفينة بإشارة الإبحار كانا يحيلان صوتهما الصخاب الأجش نايا أسيان.. في وجهيهما الرضيين المشرقين كان أمن المساء يستريح، وتقيل وداعة لا نظير لها.. راقبتهما يبتعدان على مهل كوسن يفاتح العينين بغناء شجي .. وتمنيت اختصار طفولتي .. بعد قليل عبر جندي عجلان، تضيق به ثيابه الكحلية المرتواة بالمطر، ومن خلف الزجاج الغبش لمحت معطفا حائل اللون يتهادل فوق قدمين متعبتين، تحت مظلة سوداء من مطر المساء الساحلي... على يمين الموضوع كتب الأستاذ بالمداد الأحمر: لغتك سليمة، ولكنك تحتاج إلى مزيد من القراءة الجادة حتى لا تبقى موضوعاتك سوداوية الرؤى، عصابية الترعة.. ثابر محاولا الكتابة بأسلوب أفضل.. لعل الأستاذ لا يعرف دائما كل شيء.. هكذا قلت لنفسي، ومنذ ذلك اليوم عرفني هم الكتابة، امسك بعنقي وعقلي ويدي.. منذ ذلك اليوم أحاول أن أقيم جسرا من المصالحة والتصافي بيني وبين الكتابة، وكلما أعدت قراءة ما كتبت واستظهرت زمن المطر قلت لنفسي أيضا ما هكذا تورد يا سعد الإبل .. فلعل يوما صالحا يجيء بوردة الوقت المتفتحة.. لعل الروح يوما ترتوي من ماء هذا الهوى.. وتتخفف من حمائل ذلك الشجن القديم، وتزهر في مواجهة الأسئلة!.