عودة الثلج

1- كنت أحب جدتي كثيرا.. وكانت تحبني.. وذات يوم سألتها عن أمي، فقالت: إن أمي سافرت مع عاصفة ثلجية. سالتها بشوق: ومتى ستعود؟ أجابت مرتبكة: متى.. ستعود.. متى.. آه سترجع حين تكبر يا صغيري، أجل سترجع مع الثلوج. 2- وكانت سمراء الوجه، عسلية العينين، ذات شعر طويل أسود، وأنف دقيق، وفم باسم. اكتشفت تلك الصفات من خلال الصور التي احتفظت بها جدتي العجوز الطيبة، ولسبب ما، جميل ورائع، أنا متأكد أنها ستعود ذات يوم مع الثلوج.. 3- ليلة أمس هطلت ثلوج كثيفة.. كفنت شوارع دمشق، وجبل قاسيون فنهضت مسرورا. وقلت لجدتي فجأة: أمي ستعود! ضمت رأسي إلى صدرها النحيل: أجل يا حبيبي، إنها ستعود، لكنك لما تكبر بعد! فشعرت بالمرارة وبحرقة جارحة تملأ معدتي وحلقي، وتمنيت لو أنني أكبر فجأة، ولم أستطع أن أنحب، رغم محاولاتي.. جاءت جارتنا أم عبدو، المرأة العجوز أيضا والطيبة كجدتي، حاملة لنا صحن رز بحليب. فأكلت حتى نسيت الجمرة القابعة في داخلي، ولأول مرة أسألها: عمتي أم عبدو. أتعرفين أمي؟! نظرت إلي مندهشة، ثم إلى جدتي. أجل يا صغير، إنها تعرفها جيدا. قالت جارتنا بعد صمت طويل هامسة: يا ميمتي التفتت نحوي لتقول: أمك ستعود ياصغيري، لا تخف. قلت: أعرف. جدتي أخبرتني أن امي ستعود ذات يوم. وبالفعل، لم أكن خائفا، كما أنني لم أخف يوما ما أو أقلق، ولكن، وفي هذه الليلة المثلجة أشعر بالخوف يملأ قلبي وروحي، وبقلق أخذ يكبر ويتمدد في دمي.. 4- إنها الواحدة بعد منتصف الليل.. جدتي تسعل وتتقلب في فراشها الدافئ، وأنا مازلت قلقا ومستيقظا، أحاول النوم لكي أحلم بأمي القادمة من بعيد، من وراء الجبال والسهول مع بياض الثلج، جدتي لم تأكل رز بحليب قالت إن رأسها يؤلمها، وتشعر بصداع وألم في معدتها وصدرها، صنعت لها جارتنا أم عبدو زهورات وأعطتها أسبرين. إنها لا تزال تسعل وتتقلب متألمة.. -5- في الصباح الباكر استيقظت على جلبة وحركة صاخبة، وغير عادية داخل غرفتنا الصغيرة، فتحت عيني.. كانت جارتنا واقفة.. مرتبكة تنظر إلي بصمت وحيرة، فلم أنهض لأن البرد كان قارسا، ويملأ الغرفة. سألت: أين جدتي؟! أجابت وهي تدير وجهها إلى النافذة: ستعود بعد قليل. إلى أين ذهبت وتركتني وحيدا؟! قالت بصوت حزين واهن: لا تخف يا صغيري: أنا معك، جدتك ذهبت لتعود بأمك، لا تخف يا حبيبي، نم ولا تخف. فنمت مطمئنا.. في حين غطت الثلوج البيضاء منازل المدينة ..