حديث أركان الإسلام

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد: فحديث هذه المقالة هو ما رواه الإمامان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن ابن عمر رضي الله عنهـما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان . وفي رواية أخرى: أن رجلا أتى ابن عمر رضي الله عنهما فقال: يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل، وقد علمت ما رغب الله فيه قال: يا ابن أخي بني الإسلام على خمس: إيمان بالله ورسوله والصلوات الخمس وصيام رمضان وأداء الزكاة وحج البيت. قال: يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله . وقال تعالى: قاتلوهم حتى لا تكون فتنة. قال: فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلا فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه وإما يعذبونه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة. الفقه الدعوي من هذا الحديث إخواني القراء: وبعد قراءة هذا الحديث، تعالوا بنا لننظر في الفقه الدعوي الذي نستفيده منه، وهو على النحو الآتي: أولا قوة أسلوب التشبيه في إيصال معاني الدعوة والحث عليها: ففي هذا الحديث يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدين ببنيان له أركان يقوم عليها، لبيان أهمية وعظم منزلة هذه الأمور التي هي أركان الدين، ووجوب المحافظة عليها، فكل بناء أهم شيء فيه أركانه التي يقوم عليها، والدين يقوم على الأركان الآتية: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان . ويقول الإمام السندي رحمه الله عن هذا الحديث: يريد أنه لابد من اجتماع هذه الأمور الخمسة ليكون الإسلام سالما عن خطر الزوال، وكلما زال واحد من هذه الأمور يخاف زوال الإسلام بتمامه، وللتنبيه على هذا المعنى، أتى بلفظ البناء، وفيه تشبيه الإسلام ببيت مخمسة زواياه، وتلك الزوايا أجزاؤه، فبوجودها أجمع، يكون البيت سالما، وعند زوال واحد، يخاف على تمام البيت، وإن كان قد يبقى معيوبا أهـ. فلذا ينبغي للداعية أن يحرص على استخدام هذا الأسلوب في دعوته إلى الله، بأن يقرب الموضوعات التي يطرقها بتشبيهها ببعض الصور من الواقع الملموس، والأمثلة من الحياة اليومية، لتكون أقرب لأذهانهم، وأقوى في التأثير فيهم. الفقه الثاني: أن من موضوعات الدعوة وأولياتها (الأركان الخمسة): فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الموضوعات الخمسة، وعدها من أركان الدين، وتشبيهها بأركان البيت، يدل على أهميتها، وأن لها الصدارة والأولية بين موضوعات الداعية التي يدعو إليها، ويعمل بها، ويحافظ عليها، يقول العلامة العيني (رحمه الله) عن ذكر هذه الأمور مرتبة في هذا الحديث: الحكمة في الذكر أن الإيمان أصل للعبادات، فتعين تقديمه، ثم الصلاة لأنها عماد الدين، ثم الزكاة لأنها قرينة الصلاة، ثم الحج للتغليظات الواردة فيه ونحوها، فبالضرورة يقع الصوم آخرا أهـ. لذا لما قال الرجل - في الرواية الأخرى - لابن عمر رضي الله عنهما: يا أبا عبدالرحمن: ما حملك على أن تحج عاما، وتعتمر عاما، وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل وقد علمت ما رغب الله فيه. قال له: يا ابن أخي بني الإسلام على خمس:.. مبينا له أن سبب الترك هو أفضلية الحج، وأهميته، وأنه من أركان الدين، والجهاد ليس من أركان الدين، وإن كان فضله عظيم وكبير، فلذا كان الحج مقدما على الجهاد. فلذا ينبغي للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى (بصفة عامة) مراعاة هذه الأوليات في دعوتهم والاهتمام بها، فمثلا التوحيد والإيمان بالله، لا يقدم عليه شيء من الموضوعات مهما كان في الأهمية والمكانة، بل يكون بعده في الترتيب والأهمية، ثم يأتي بعده الأهم فالمهم بسب الأحوال والظروف والأزمنة والأمكنة. الفقه الثالث: أهمية الحكمة في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى فإجابة ابن عمر رضي الله عنهما على الرجل الذي قال له: يا أبا عبد الرحمن: ما حملك على أن تحج عاما، وتعتمر عاما، وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل وقد علمت ما رغب الله فيه، فيها درس للدعاة في كيفية الحوار والحكمة فيه، وأن لا يأخذهم الحماس والانفعال إلى أمور لا تنفع، بل قد تضر، فابن عمر رضي الله عنهما، أجابه بقول مختصر جمع فيه التعليل مع الدليل، مع البعد عن جدال حول قضية قد يطول الحديث والنقاش فيها، فهو لم يناقشه في شرعية أو ضرورة المشاركة في القتال الدائر بين المسلمين ذاك الوقت، لأن السائل قال له: إنك تحج وتعتمر، وتترك الجهاد..، بل بين له أن تركه لهذا الأمر، بدليل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث عد الحج من أركان الدين، والجهاد ليس كذلك وإن كان أجره عظيما. فالعلة هي أفضلية الحج، والدليل هو قول النبي صلى الله عليه وسلم. الفقه الرابع: أهمية القدوة في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى إذ يظهر في هذا الحديث مدى أهمية القدوة، وأن الناس تراقب العلماء والدعاة للاقتداء بهم، ففعل ابن عمر بالحج عاما، والعمرة عاما، وتركه للمشاركة في القتال، كان محل نظر الناس وتساؤلاتهم وإثارة اهتمامهم، فلذا سأل رجل ابن عمر رضي الله عنهما عن هذا الأمر فقال: يا أبا عبد الرحمن: ما حملك على أن تحج عاما، وتعتمر عاما، وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل وقد علمت ما رغب الله فيه. وما سأل هذا الرجل ابن عمر رضي الله عنهما إلا لأنه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن العلماء الذين يعرفون أحكام الدين وما ورد فيه، لذلك قال له: وقد علمت ما رغب الله فيه. فمن هنا نقول للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، أنتم محل نظر الناس وقدوتهم، فلا يرون منكم إلا ما شرع الله لكم، فأنتم دعاة لهم بأفعالكم قبل أقوالكم. الفقه الخامس: أن من صفات الداعية المبادرة إلى العمل بالعلم وتطبيقه يظهر من قول الرجل المذكور في الحديث لابن عمر رضي الله عنهما: يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما، وجواب ابن عمر رضي الله عنهما عليه بقوله: يا ابن أخي: بني الإسلام على خمس.. مدى حرص الصحابة رضي الله عنهم ومنهم ابن عمر رضي الله عنهما على العمل بما تعلموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإسلام بني على هذه الأركان الخمسة لذا فهو يعمل بها جميعا لأنها كلها أركان للدين. الفقه السادس: أن من أساليب الدعوة: المناظرة في العلم إن في قول الرجل المذكور في الحديث لابن عمر رضي الله عنهما: يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما.. ، وجواب ابن عمر رضي الله عنهما عليه بقوله: يا ابن أخي بني الإسلام على خمس.. ومن ثم قول الرجل له: يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه.. . ثم قول ابن عمر رضي الله عنهما له: فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلا فكان الرجل..، يظهر من هذا كله أهمية الحوار في العلم، فابن عمر رضي الله عنهما من خلال حواره مع هذا الرجل استطاع أن يبين له أن سبب تركه للجهاد مع ما ورد من الترغيب فيه، وحجه عاما وعمرته عاما آخر، لأن الحج من أركان هذا الدين، إذن فهو أفضل من الجهاد، وفعله من باب ترك المفضول إلى الفاضل. وأما تركه للقتال في الفتنة مع ورود بعض الآيات التي تحث على مقاتلة البغاة بعد رفضهم للصلح وتحكيم كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلأنه يرى أن الواقع لا ينطبق عليه معنى الآية ومقصدها، فهم يريدون بالقتال الفتنة لا علاجها كما يقول رضي الله عنه. لذا ينبغي للدعاة إلى الله سبحانه محاورة طالب العلم وبيان ما عنده من إشكالات وأخطاء حتى يعود إلى الصواب و يبتعد عن الخطأ والوقوع فيه.