حديث جود النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد: فحديث هذه المقالة هو ما رواه الإمامان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة). وجاء في رواية أخرى: (... وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة). الألفاظ الغريبة في الحديث: - ومن الألفاظ الغريبة التي تحتاج إلى شرح وبيان في هذا الحديث، الألفاظ الآتية: - قوله: (أجود) بمعنى: أفعل التفضيل، من الجود، وهو العطاء، أي أعطى ما ينبغي، لمن ينبغي . - وأما لفظة: (ينسلخ): فيقال: سلخت الشهر، إذا أمضيته، وصرت في آخره، وانسلخ الشهر من سنته، أي خرج منها . - وقوله في الحديث (الريح المرسلة)، أي: المبعوثة لنفع الناس، أو من الريح المرسلة للرحمة. الفقه الدعوي من الحديث: - أخي القارئ: وبعد أن شرحنا بعض الألفاظ الغريبة في هذا الحديث، تعال بنا لننظر في الفقه الدعوي الذي نستفيده منه، وهو على النحو الآتي : أولا - من صفات الداعية الجود والكرم: ينبغي للداعية إلى الله سبحانه وتعالى، أن يتحلى بصفة الجود والكرم، ويجتهد في اكتسابها بالبذل والعطاء في سبيل الله ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، لأن الناس جبلت على حب من أحسن إليها، وعليه أن يقتدي في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس الذي كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وفي هذا الحديث إشارة إلى اتصاف رسول صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة والحث عليها، يقول العلامة العيني -رحمه الله-: إن (المناسبة بين الجمل الثلاث - الواردة في الحديث - وهي قوله: كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس. وكان أجود ما يكون في رمضان. وفلرسول الله صلى الله عليه وسلم الخ. ظاهرة لأنه أشار بالجملة الأولى إلى أنه صلى الله عليه وسلم أجود الناس مطلقا، وأشار بالثانية إلى أن جوده في رمضان يفضل جوده في سائر أوقاته، وأشار بالثالثة إلى أن جوده في عموم النفع والإسراع فيه كالريح المرسلة). فجود رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرمه ليس له مثيل بين الخلق، كيف لا وهو ينزل عليه القرآن، الذي فيه حث على مكارم الأخلاق. الفقه الثاني الذي نستفيده من هذا الحديث:- هو حاجة الداعية لمراجعة علمه وحفظه على يد العلماء، وملازمتهم، والتنظيم في ذلك. إن مراجعة الداعية لحفظه وما يتعلمه، سبب لرسوخ هذا العلم، والتثبت منه، وفي هذا الحديث نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - مع مكانته العظيمة في العلم والحفظ - يراجع القرآن على جبريل عليه السلام، ويدارسه فيه، يقول الإمام الكرماني - رحمه الله -: (وفائدة درس جبريل عليه السلام، تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجويد لفظه وتصحيح إخراج الحروف من مخارجها، وليكون سنة في حق الأمة، كتجويد التلامذة على الشيوخ وقراءتهم). فلذا ينبغي لطالب العلم أن يحرص على ملازمة العلماء، و أخذ العلم عنهم، وأن لا يكتفي بقراءة الكتب، وحفظ المتون فقط، بل لابد من دراستها وحفظها عند أهل العلم والفقه بالدين، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بمدارسته على جبريل عليه السلام. كما ينبغي على الداعية أن ينظم وقته، وطريقة حفظه وتحصيله للعلم، فالداعية المنظم غير الداعية المندفع ثم المنقطع، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة الدعاة يدارس جبريل صلى الله عليه وسلم القرآن في كل ليلة من رمضان كل عام، جزءا منه حتى ينتهي منه في آخر رمضان، إلا العام الذي توفي فيه، راجعه عليه مرتين. الفقه الثالث الذي نستفيده من هذا الحديث هو:- أهمية اختيار الأوقات المناسبة للحفظ والمذاكرة يقول بعض العلماء - رحمهم الله -: إن ممن يستفاد من قوله في هذا الحديث: (وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان) أن من أفضل الأوقات للمذاكرة والحفظ، وقت الليل، لأنه مظنة ذلك، ولما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية، والدينية. فلذا ينبغي لمن أراد المذاكرة والحفظ - خاصة لمن يريد حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، وقراءته - الاهتمام بالأوقات المناسبة والمعينة على ذلك، كوقت الليل وبعد الفجر. الفقه الرابع الذي نستفيده من هذا الحديث:- هو أهمية زيارة الصالحين وأهل الفضل ومجالستهم: إن مما يستفاد من هذا الحديث، استحباب زيارة المسلم للصالحين وأهل الفضل، ومجالستهم، وتكرار زيارتهم، ومواصلتها، إذا كان المزور لايكره ذلك، للنفع الذي يعود عليه في الدنيا والآخرة، يقول الإمام النووي - رحمه الله - إن من فوائد هذا الحديث: (زيادة الجود والخير عند ملاقاة الصالحين وعقب فراقهم للتأثر بلقائهم). فلذا ينبغي للداعية إلى الله سبحانه وتعالى، أن يحرص على لقاء أمثال هؤلاء ومجالستهم لأنه لا يأتي منهم إلا الخير، كما قال صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه البخاري: مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة. الفقه الخامس الذي نستفيده من هذا الحديث:- هو أن من أساليب الدعوة تقريب المعاني بالتشبيه إن من أساليب الدعوة، التي تقرب المعنى، وتزيد رسوخه في الذهن، وترغب فيه والعمل به، أسلوب التشبيه، يقول العلامة القسطلاني - رحمه الله -: (وفيه جواز المبالغة في التشبيه، وجواز تشبيه المعنوي بالمحسوس ليقرب لفهم سامعه، وذلك أنه أثبت له أولا وصف الأجودية، ثم أراد أن يصفه بأزيد من ذلك فشبه جوده بالريح المرسلة، بل جعله أبلغ منها في ذلك لأن الريح قد تسكن). فلذا ينبغي للداعية إلى الله سبحانه وتعالى، الحرص على هذا الأسلوب الدعوي، وذلك باستخدامه في دعوته، فتشبيه الشيء الجميل بالشيء الجميل، أو العظيم بالعظيم، أو الكبير بالكبير، أو الحقير بالحقير، يقرب المعنى، ويزيد في رسوخه، ويرغب فيه، أو ينفر منه. هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا