حديث شعب الإيمان

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد: فحديث هذه المقالة هو ما رواه الإمامان البخاري ومسلم (رحمهما الله تعالى) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان . أخي القارئ: ومن الألفاظ الغريبة التي تحتاج إلى شرح وبيان في هذا الحديث، الألفاظ الآتية: بضع - عدد مبهم، مابين الثلاث إلى التسع وقيل إلى العشر، يقال بضعة عشر في جمع المذكر، وبضع عشرة في جمع المؤنث. وهو خاص بالعشرات إلى التسعين. شعبة - بالضم أي قطعة، والمراد الخصلة أو الجزء. الحياء - هو بالمد، وهو في اللغة تغيير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه. وفي الشرع خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق. الفقه الدعوي في هذا الحديث:- إخواني القراء: وبعد أن شرحنا بعض الألفاظ الغريبة في هذا الحديث، تعال بنا لننظر في الفقه الدعوي الذي نستفيده منه، وهو على النحو الآتي : أولا - أسلوب شد الانتباه بذكر العدد المبهم : إن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدد شعب الإيمان، ثم لم يبين منها إلا القليل، فيه فائدة دعوية، وهي شد الانتباه وإثارة الحافز على إحصائها وتتبعها والعمل بها، يقول الشيخ ابن عثيمين - حفظه الله -: (في هذا الحديث بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإيمان شعب كثيرة ؛ بضع وستون، أو بضع وسبعون، ولم يبينها الرسول عليه الصلاة والسلام، لأجل أن يجتهد الإنسان بنفسه ويتتبع نصوص الكتاب والسنة، حتى يجمع هذه الشعب ويعمل بها، وهذا كثير، أي أنه يكون في القرآن والسنة أشياء مبهمة، يبهمها الله ورسوله من أجل امتحان الخلق ليتبين الحريص من غير الحريص. فمثلا: ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، أو السبع الأواخر من رمضان، لكن لا تعلم في أي ليلة هي، من أجل أن يحرص الناس على العمل في كل الليالي رجاء هذه الليلة، ولو علمت بعينها لاجتهد الناس في هذه الليلة وكسلوا عن بقية الليالي). وقال - حفظه الله -: (وعلى هذا فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم هنا: الإيمان بضع وستون شعبة ترك تعينيها من أجل أن نحرص نحن على تتبعها في الكتاب والسنة حتى نجمع هذه الشعب ثم نقوم بالعمل بها، وهذا من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم التي آتاه الله تعالى). لذا ينبغي للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى استخدام هذا الأسلوب والاستفادة منه، بذكر العدد والترقيم، وذلك لما له من فائدة، أو بذكر أمثال هذا الحديث، كقوله صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه الإمام البخاري: لله تسعة وتسعون اسما،مائة إلا واحدا،لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة،وهو وتر يحب الوتر . الفقه الثاني الذي نستفيده من هذا الحديث هو:- أن من صفات الداعية الحياء: إن هذا الحديث يبين صفة من الصفات الجميلة للدعاة إلى الله، وهي الحياء، يقول الشيخ العلامة محمد بن صالح بن عثيمين - حفظه الله -: والحياء صفة حميدة كانت خلق النبي صلى الله عليه وسلم فكان من خلقه صلى الله عليه وسلم الحياء، حتى إنه كان أكثر حياء من العذراء في خدرها عليه الصلاة والسلام، إلا أنه كان لا يستحي من الحق. فالحياء صفة محمودة، لكن الحق لا يستحيا منه، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: والله لا يستحيي من الحق، وقال سبحانه وتعالى: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها. فالحق لا يستحيا منه، ولكن ما سوى الحق فإن من الأخلاق الحميدة أن تكون حييا. ضد ذلك من لا يستحي، فلا يبالي بما فعل، ولا يبالي بما يقول. ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الإمام البخاري: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت أ هـ. الحياء كله خير:- وأما كون الحياء خيرا كله، ولا يأتي إلا بخير، فقد يشكل على بعض الناس، من حيث أن صاحب الحياء قد يستحي أن يواجه بالحق، فيترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق، وغير ذلك مما هو معروف في العادة،فكيف يكون هذا من الإيمان؟ فأجاب عن ذلك بعض العلماء-رحمهم الله -: بأن ذلك ليس بحياء حقيقة، بل هو: عجز ومهانة، وإنما تسميته حياء، من إطلاق بعض أهل العرف، أطلقوه مجازا لمشابهته الحياء الحقيقي، وأولى الحياء، الحياء من الله تعالى، وهو أن لا يراك الله حيث نهاك، وذاك إنما يكون عن معرفة ومراقبة. والحياء وإن كان غريزة إلا أن الداعية يستطيع أن يكتسبه ويتخلق به، يقول الإمام النووي - رحمه الله -: (إنما جعل الحياء من الإيمان، وإن كان غريزة، لأنه قد يكون تخلقا واكتسابا، كسائر أعمال البر، وقد يكون غريزة، ولكن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب ونية وعلم، فهو من الإيمان بهذا، ولكونه باعثا على أفعال البر، ومانعا من المعاصي) أهـ. الفقه الثالث الذي نستفيده من هذا الحديث هو:- أهمية أسلوب التشبيه وأثره الدعوي: في هذا الحديث شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان بشجرة ذات أغصان وفروع، لبيان أن هذا الدين له فروع ودرجات ومنازل، وعن هذا يقول العلامة الكرماني - رحمه الله -:( وشبه الإيمان بشجرة ذات أغصان وشعب، كما شبه في الحديث السابق يعني حديث بني الإسلام على خمس - الإسلام بخباء ذات أعمدة وأطناب) أهـ. فإن مثل هذا التشبيه يظهر أثره الدعوي على الإنسان بجده وسعيه على تحصيل هذه الدرجات والشعب ليكون كالشجرة الكاملة الفروع والأغصان، فالإيمان اسم يتشعب إلى أمور ذوات عدد، جماعها الطاعة، ولهذا صار من صار من العلماء، إلى أن الناس مفاضلون في درج الإيمان، وإن كانوا متساوين في اسمه.