كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد: فحديث هذه المقالة هو ما رواه الإمامان البخاري ومسلم (رحمهما الله تعالى) عن ابن عباس رضي الله عنه أن أبا سفيان بن حرب رضي الله عنه أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش. فأتوه وهم بإيلياء. فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم، ثـم دعـاهم، ودعا بترجمانه. فقال: أيكم أقـرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ فقال أبو سفيان فقلت: أنا أقربهم نسبا فقال: أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم. قلت: هو فينا ذو نسب قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله. قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك، قلت: لا. قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم. فقلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون. قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه. قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال. قلت: لا. قال: فهل يغدر. قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول، فذكرت أن لا، فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله، وسألتك هل كان من آبائه من ملك، فذكرت أن لا قلت، فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون، فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر، فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بما يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقا، فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج،لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه. ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية. إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل فقرأه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون . قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا. فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - إنه يخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام. وكان ابن الناظور صاحب إيلياء سقفا على نصارى الشأم، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس. فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك. قال ابن الناظور وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة. قالوا: ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مداين ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود فبينما هم على أمرهم أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون. فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر. ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية وكان نظيره في العلم وسار هرقل إلى حمص، فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي. فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت. فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال: ردوهم علي وقال: إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت. فسجدوا له ورضوا عنه. فكان ذلك آخر شأن هرقل). الألفاظ الغريبة في الحديث:- أخي القارئ: ومن الألفاظ الغريبة التي تحتاج إلى شرح وبيان في هذا الحديث، الألفاظ الآتية: - (إيلياء): معناه بيت الله، وهي بيت المقدس. - (بصرى): مدينة بين الشام والحجاز. - (الأريسيين): جمع أريسي، وهو منسوب إلى أريس، بوزن فعيل، والأريس قيل: الفلاح، وقيل: الأمير، والمقصود هنا الفلاحين. - (بني الأصفر): هم الروم، سموا بذلك لما يعرض لألوانهم في الغالب من الصفرة . - (أسقف): والأسقف، والسقف، لفظ أعجمي، ومعناه رئيس دين النصارى. - (بطارقته): جمع بطريق، وهم خواص دولة الروم . - (حزاء): هو الذي يحرز الأشياء ويقدرها بظنه. ويقال للذي ينظر في النجوم: حزاء، لأنه ينظر في النجوم وأحكامها بظنه وتقديره. - (رومية): مدينة معروفة للروم. وهي الآن تعرف باسم: روما، عاصمة دولة إيطاليا . -(دسكرة): واحدة الدساكر، وهي القصور . الفقه الدعوي من هذا الحديث :- إخواني القراء: وبعد أن شرحنا بعض الألفاظ الغريبة في هذا الحديث، تعال بنا لننظر في الفقه الدعوي الذي نستفيده منه، وهو على النحو الآتي : الأول - أسلوب التأكيد على صحة نقل الكلام والرواية، وأن خبر الجماعة أوقع من الواحد: إن التأكد من صحة الكلام، ونقل الرواية، تزيد ثقة المدعو في الحديث، والعمل والإيمان به، وذلك يظهر في هذا الحديث من جانبين، الأول: قول ابن عباس رضي الله عنهما: (حدثني أبو سفيان من فيه إلى في قال)، وعن ذلك يقول بعض العلماء - رحمهم الله -: إنما لم يقل إلى أذني يشير إلى أنه متمكنا من الإصغاء إليه، وغاية قربه من تحديثه. وأما الجانب الآخر فهو قول هرقل: (قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه)، وعن هذا يقول الإمام الأبي -رحمه الله-: (وفيه أن خبر الجماعة أوقع في النفس من خبر الواحد، ولا سيما إن كانوا كثيرا بحيث يقع العلم بخبرهم). إذن فينبغي للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، الحرص على هذا الأسلوب، بذكر ما يثبت صدق كلامهم وصحته، مما يجعل المدعوين أكثر قبول لهم، وأحرى للعمل بما يدعونهم إليه، كأن يقول عند ذكر الحديث من رواه من الأئمة الحفاظ، كالبخاري ومسلم -رحمهما الله- أو بذكر من قال برأيه من العلماء المشهورين، أو بذكر من يشهد على صدقه من الحاضرين، وغير ذلك مما يعطي الحديث قوة في ثبوته وصدقا في حقيقته. الفقه الثاني الذي نستفيده من هذا الحديث هو:- بيان بعض أصناف المدعوين وسماتهم، وهم على النحو الآتي: أولا - أصحاب السلطة: وهم في هذا الحديث: هرقل، ووزراؤه، وبطارقته، وعظيم بصرى، هذا وإن من دوافع كفرهم، شدة تعلقهم بالملك والرياسة والحرص على السلطة، ولو ظهر لهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه، لذا قال بعض العلماء - رحمهم الله - عند شرحهم لهذا الحديث: إنما شح هرقل بالملك ورغب في الرياسة فآثرهما على الإسلام مع رجاحة عقله، وظهور صدق الرسول صلى الله عليه وسلم له. ضعفاء الناس :- ثانيا - ضعفاء الناس: وقد ورد ذكرهم في الحديث عندما سأل هرقل أبا سفيان رضي الله عنه عن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم. فقلت: بل ضعفاؤهم). يقول الإمام النووي رحمه الله -: (أما قوله إن الضعفاء هم أتباع الرسل، فلكون الأشراف يأنفون من تقدم مثلهم عليهم- إلا من هداهم الله والضعفاء لا يأنفون، فيسرعون إلى الانقياد، واتباع الحق) أهـ. إذن فعامة أتباع الرسل - عليهم الصلاة والسلام - والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، هم الضعفاء. ثالثا - أهل الكتاب، هم في هذا الحديث الروم، ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه لهم: قل يا أهل الكتاب.. يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله -: (إن كل من دان بدين أهل الكتاب، كان في حكمهم في المناكحة والذبائح، لأن هرقل هو وقومه ليسوا من بني إسرائيل، وهم ممن دخل في النصرانية بعد التبديل، وقد قال له ولقومه: قل يا أهل الكتاب فدل على أن لهم حكم أهل الكتاب، خلافا لمن خص ذلك بالإسرائيليين، أو بمن علم أن سلفه ممن دخل في اليهودية أو النصرانية قبل التبديل). الفقه الثالث - شناعة الكذب ، وبيان خطورته: إن الكذب من الصفات الشنيعة، التي نهى عنها الشارع الكريم وحذر منها، وفي هذا الحديث ما يبين ذلك، فإذا كان مشركو العرب يرون أن الكذب مما يخدش الشرف في عرفهم، ويعاب عليه الإنسان، فنقول كيف يكذب المسلم الذي أمر بمحاسن الأخلاق والبعد عن مساوئها، يقول الإمام الكرماني - رحمه الله - عن قول أبي سفيان رضي الله عنه : - فوالله لولا الحيـاء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه - ( معناه لولا الحياء من أن رفقتي يروون عني ويحكون عني في بلادي كذبا فأعاب به، لأن الكذب قبيح، وإن كان على العدو، لكذبت . ويعلم منه قبح الكذب في الجاهلية أيضا ). الفقه الرابع الذي نستفيده من هذا الحديث هو:- شمولية موضوعات الدعوة، وأولياتها : إن الحديث بعمومه وأطرافه يدل على شمول رسالة الإسلام، فقد ذكر التوحيد والإيمان، والعبادات، والأحكام، والأخلاق، وهذه أركان حياة العباد . يقول الإمام الكرماني - رحمه الله -:( ومحصله أنه ينهانا عن النقائص ويأمرنا بالكمالات، وهو معنى التكميل المقصود من الرسالة ). وأيضا يظهر لنا في هذا الحديث : أوليات الدعوة، إذ نجد أن أبا سفيان رضي الله عنه، ذكر في هذا الحديث ما ظهر له من اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، في دعوته لهم من موضوعات، فلذا كان التوحيد وترك الشرك، أول ما بدأ به، فكرره وما يتعلق به لأهميته، بثلاث عبارات عندما قال : (قلت: يقول اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم ) يقول الإمام الكرماني - رحمه الله -: (وإنما بالغ فيها حيث ذكرها بثلاث عبارات، لأنها كانت أشد الأشياء عليه، وأهم عنده). فيجب على الدعاة إلى الله إعطاء هذا الموضوع - التوحيد والعقيدة - اهتماما كبيرا في دعواتهم، وأن يأخذ الصدارة والأولية على كل أهدافهم وموضوعاتهم، ثم يأتي بعد ذلك باقي الموضوعات بحسب أهميتها ومكانتها في الدين . الفقه الخامس الذي نستفيده من هذا الحديث هو :- أهمية اتصاف الداعية بمكارم الأخلاق: إن اتصاف الداعية بمكارم الأخلاق، هو عنوان دعوته، وسبب انتشارها، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لاتصافه بالصدق والعفاف والصلة وغيرها من مكارم الأخلاق شهد له الأعداء بذلك وأقروا له بالفضل، قبل أن يؤمنوا به. فعندما سأل هرقل أبا سفيان - قبل إسلامه - عن ما يدعوهم إليه، وهل جربوا عليه الكذب أو الغدر؟ أخبره بأنه يدعوهم لمكارم الأخلاق، وأنهم ما جربوا عليه الكذب، وأنه لا يغدر. فأعقبه هرقل بأن قال: ( فإن كان ما تقول حقا، فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه ) وفيه الرواية الأخرى قال : (وهذه صفة النبي) . الفقه السادس الذي نستفيده من هذا الحديث هو:- أهمية اختيار الدعاة، وأن يكونوا من أشراف الناس: إن في هذا الحديث إشارة إلى أهمية اختيار الدعاة، وأن يكونوا من أشراف الناس وساداتهم وذلك لسببين: الأول: لبعدهم عن تدنيس أنسابهم بما لا يليق، قال بعض أهل العلم -رحمهم الله-: في هذا الحديث دليل على أن ذوي الأحساب أولى بالتقديم في أمور المسلمين ومهماتهم الدينية والدنيوية، لأن ذوي الأحساب أحوط على عدم تدنيس أحسابهم بما لا يليق. الثاني: لأن عامة الناس أكثر انقيادا لهم، يقول الإمام النووي - رحمه الله - عن سبب كون الأنبياء في أشراف أقوامها: (الحكمة في ذلك أنه أبعد من انتحاله الباطل، وأقرب إلى انقياد الناس له). الفقه السابع الذي نستفيده من هذا الحديث هو:- من أساليب دعوة الملوك والكبار:مخاطبتهم بألقابهم وتعظيمهم بما يستحقون: إن حاجة الملوك والأمراء للتلطف معهم، وتأليف قلوبهم ببعض عبارات التعظيم، أشد من غيرهم، للمكانة التي هم فيها، ومن تعظيم أتباعهم لهم، فلذا ينبغي للدعاة أن يراعوا هذا الجانب أثناء دعوتهم لأمثال هؤلاء من السادة والقادة والأشراف، فرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما خاطب هرقل قال له: من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم . قال العلماء - رحمهم الله -: ولم يقل ( هرقل ) فقط، بل أتى بنوع من التعظيم الذي فيه ملاطفة، فقال : عظيم الروم أي الذي يعظمونه، ويقدمونه، وقد أمر الله تعالى بإلانة القول لمن يدعى إلى الإسلام، فقال: اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ولكن من سلك هذا الأسلوب من الدعاة، فعليه عدم المبالغة في التعظيم و الملاطفة، يقول الإمام النووي - رحمه الله -: عليه استعمال الورع فيه، فلا يفرط، ولا يفرط، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم ولم يقل ملك الروم، لأنه لا ملك له، ولا لغيره إلا بحكم دين الإسلام، ولا سلطان لأحد إلا لمن ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ولاه من أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم. الفقه الثامن الذي نستفيده من هذا الحديث هو:- أسلوب الترغيب والترهيب: في هذا الحديث أسلوب من أساليب الترغيب والترهيب، فالترغيب بذكر مضاعفة الأجر له، والترهيب من عدم إيمانه بتحمله إثم قومه: أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين. يقول الحافظ ابن حجر-رحمه الله-: (وقد اشتملت هذه الجملة على الترغيب بقوله: تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، والترهيب بقوله : فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين). الفقه التاسع الذي نستفيده من هذا الحديث هو :- التحذير من القدوة السيئة: إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، فيه ترهيب وتحذير من القدوة السيئة، وأما شبهة أن الإنسان لا يتحمل وزر غيره لقول الله سبحانه: ولا تزر وازرة وزر أخرى فقد قال العلماء - رحمهم الله - في الرد عليها: إن المراد إثم الإضلال عليه، والإضلال أيضا وزره كالضلال؛ ولأن الضعفاء و عامة الناس على دين ملوكهم، والأصاغر، أتباع الأكابر، يقول الله سبحانه وتعالى: ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بـغير علم ، ويقول صلى الله عليه وسلم: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا الحديث رواه الإمام مسلم . الفقه الدعوي العاشر هو:- محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة المقترنة بطاعته: إن قول قيصر النصراني: (ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه) تستدعي من المسلمين عامة ، والدعاة إلى الله خاصة ، تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته محبة كبيرة - مع إنزاله منزلته البشرية، فلا تقصير ولا غلو - فإذا كان هذا قيصر عدو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا الكلام، مبالغة في التعظيم له والخدمة. فمن باب أولى أن نكون نحن المسلمين وخاصة الدعاة منا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما له، محبة تقتضي الاقتداء والمتابعة، لا مجرد الادعاء والمخالفة، إذ يقول الله سبحانه وتعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم.الفقه الحادي عشر الذي نستفيده من هذا الحديث هو : الابتلاء من سمات دعوة الأنبياء والصالحين : إن مما يجب على الدعاة معرفته، وأن يتربوا عليه، أن الابتلاء والمحن للدعوة والدعاة، من سمات دعوة الأنبياء السابقين ودعوة نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام، لذا ينبغي أن لا يأخذهم الحماس والتهور في مواجهة الابتلاء والمحن، إلى تصرفات تؤدي بهم، وبمن معهم في النهاية إلى الهلاك والخسران، يقول الله سبحانه وتعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب . ويقول الله عز وجل : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين . وفي هذا الحديث إشارة إلى هذا الابتلاء الذي يتعرض له الانبياء عندما قال هرقل في إجابته على كلام أبي سفيان رضي الله عنه : (وسألتك هل قاتلتموه وقاتلكم، فزعمت أن قد فعل وأن حربكم وحربه تكون دولا ويدال عليكم المرة وتدالون عليه الأخرى، وكذلك الرسل تبتلى ، وتكون لها العاقبة ) ، يقول الإمامان النووي والكرماني -رحمهما الله-: ( يبتليهم الله بذلك ليعظم أجرهم بكثرة صبرهم وبذلهم وسعيهم في طاعة الله تعالى) أهـ . فالعاقبة دائما تكون للمؤمنين بصبرهم على الدعوة وما يلاقونه فيها، لذا أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم خباب بن الأرت رضي الله عنه - عندما شكى له ما يتعرضون له من ابتلاء وشدة- إلى الطريق الصحيح، وهو الصبر وعدم الاستعجال، فقال له : لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله زاد بيان والذئب على غنمه الحديث رواه البخاري . الفقه الثاني عشر الذي نستفيده من هذا الحديث هو : حقيقة خوف الكفار من المسلمين، وأن المسلمين نصروا بالرعب إن هذا الحديث فيه دلالة على حقيقة خوف الكفار من المسلمين، وشدة رعبهم منهم، فهذا ملك بني الأصفر على عظم ملكه وقوة دولته، يخاف من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المسلمين - على ضعفهم وقلتهم - فيقول لأبي سفيان رضي الله عنه: (إن يك ما قلت حقا، فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين) ، فلذا بوب الإمام البخاري - رحمه الله - على هذا الحديث وغيره بابا في كتاب الجهاد والسير، قال فيه : باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وقوله عز وجل: سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله . يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: إن قول أبي سفيان (إنه يخافه ملك بني الأصفر) هو الغرض من ذكر هذا الحديث في هذا الباب. ويقول - رحمه الله - : (وليس المراد بالخصوصية مجرد الرعب، بل هو، وما ينشأ عنه من الظفر بالعدو) . لذا فليبشر الدعاة إلى الله U، ومن معهم بالنصر من الله والظفر بعدوهم، وذلك بإيمانهم وصبرهم على الدعوة إلى هذا الدين والعمل له، وبه. الفقه الثالث عشر الذي نستفيده من هذا الحديث هو : من وسائل الدعوة:الرسائل والسفراء،وكيفية الكتابة لأهل الكتاب وغيرهم : إن من وسائل الدعوة التي ينبغي للدعاة أن يستفيدوا منها الكتابة إلى القادة، والدول، والقبائل، والأشخاص، وغيرهم . وإرسالها مع السفراء الدعاة، لتوضيحها ودعوة وتعليم القوم المرسلة إليهم، فقد روى الإمام مسلم رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى الملوك وإلى كل جبار في الأرض يدعوهم إلى الإسلام. ومن كتابة صلى الله عليه وسلم إلى هرقل مع دحية رضي الله عنه، استنبط بعض العلماء -رحمهم الله- مجموعة من الآداب والفوائد التي تتعلق بالكتابة لغير المسلمين، منها : أولا - استحباب تصدير الكتاب بـ(بسم الله الرحمن الرحيم )، وإن كان المبعوث إليه كافرا . ثانيا - أن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم، المراد بحمد الله ذكر الله تعالى، وقد جاء في رواية بذكر الله تعالى، وهذا الكتاب ذا بال، بل من المهمات العظام، وبدأ فيه بالبسملة دون الحمد . ثالثا - جواز السفر بالقرآن إلى أرض العدو، وأن النهي محمول على ما إذا خيف وقوعه في أيدي العدو . رابعا - جواز مس الكفار لآية أو آيات يسيرة مع غير القرآن لمصلحة الدعوة . خامسا - التوقي في المكاتبة، واستعمال الورع فيها، فلا يفرط، ولا يفرط . سادسا - استحباب البلا غة والإيجاز، وتحري الألفاظ الجزلة في المكاتبة. يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله- : ( وقد اشتملت هذه الجمل القليلة التي تضمنها هذا الكتاب، على الأمر بقوله أسلم ، والترغيب بقوله: تسلم ويؤتك، والزجر بقوله: فإن توليت، والترهيب بقوله: فإن عليك ، والدلالة بقوله : يأهل الكتاب وفي ذلك من البلاغة ما لا يخفى، وكيف لا وهو كلام من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم فعلى الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في حديثهم وكتابتهم بالإيجاز المبين، وتجنب الإطالة فيما لا يفيد . الفقه الرابع عشر الذي نستفيده من هذا الحديث هو: أن من وسائل الدعوة : تفسير القرآن لغير الناطقين بالعربية : فلذا بوب الإمام البخاري - رحمه الله - على هذا الحديث في كتاب التوحيد بابا قال فيه : ( باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها، لقول الله تعالى: قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) . وعن العلاقة بين الترجمة وحديث الباب يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ( ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل باللسان العربي، ولسان هرقل رومي، ففيه إشعار بأنه اعتمد في إبلاغه ما في الكتاب على من يترجم عنه بلسان المبعوث إليه ليفهمه ). فتفسير القرآن الكريم وترجمة معانيه لغير الناطقين بالعربية وسيلة مشروعة للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، ليسهل فهم القرآن على هؤلاء، ولتصل معانيه إليهم . الفقه الخامس عشر الذي نستفيده من هذا الحديث هو: أنه ينبغي دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم قال بعض أهل العلم - رحمهم الله - : إن مكاتبة الكفار لدعوتهم إلى الإسلام قبل قتالهم واجبة إن كانت لم تبلغهم دعوة الإسلام، وإن كانت بلغتهم كان مستحبا . فلذا ينبغي للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، المجاهدين في سبيله، الحرص على البدء بدعوة كل من يجاهدونهم في سبيل الله باللسان والبيان قبل القتال والسنان، وذلك لأن المقصود من الجهاد هو هداية الناس ودخولهم في دين الله U، لا قتالهم واستغلال أرضهم وسبي نسائهم وذراريهم . الفقه السادس عشر الذي نستفيده من هذا الحديث هو: أن من خصائص الدعوة الإسلامية، أنها عامة: إن في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم بكتابه هذا وغيره دليل على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم، لجميع البشر، وأنها ليست خاصة بالعرب فقط . يقول الإمام الأبي - رحمه الله - : ( رسالته صلى الله عليه وسلم عامة لأهل الأرض، فيجب عليه تبليغ دعوته إلى جميعهم، ولا يتعين أن يكون مباشرة، بل هو أعم من أن يكون بالمباشرة، أو بالكتب، أو بخبر الواحد، ولما تعذرت المباشرة في هرقل، ولم يتصور فيه إلا الكتب، كتب إليه ). فالدعوة الإسلامية عامة لكل الناس، في كل زمان، وفي كل مكان، ولا يسع أحد أن يدخل في دين غير الإسلام، يقول الله سبحانه وتعالى : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين .