حديث حقيقة المسلم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد: فحديثا هذه المقالة هما: الأول : ما رواه الإمامان البخاري ومسلم (رحمهما الله تعالى) عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه . والثاني : أيضا ما رواه الإمامان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قالوا يا رسول الله: أي الإسلام أفضل؟ قال: مـن سلم المسلمون مـن لسانه ويده. الفقه الدعوي في الحديث:- إخواني القراء: وبعد النظر في هذين الحديثين، تعالوا بنا لننظر في الفقه الدعوي الذي نستفيده منهما، وهو على النحو الآتي : أولا - بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغ الدين: في هذين الحديثين يظهر لنا صفة من صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغية البيانية، فهو الذي أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم، وهو أفصح العرب. وأما خصه لهاتين الجارحتين - اليد واللسان - من سائر الجوارح، فلأنهما أظهر الجوارح في الكسب. ونجمل ما في هذا الحديثين من البيان والبلاغة، على النحو الآتي: الأول - أسلوب الحصر الذي بمعنى التفضيل، ففي قوله صلى الله عليه وسلم: المسلم من سلم المسلمون...، والمهاجر من هجر ... يقول العلامة العيني (رحمه الله) عن ذلك أنه: يدل على الحصر لوقوع جزئي الجملة معرفتين، ولكن هذا من قبيل قولهم: زيد الرجل، أي زيد الكامل في الرجولة، فيكون التقدير: المسلم الكامل من سلم .. إلى آخره. وهذا من جوامع كلامه صلى الله عليه وسلم وفصيحه، كما يقال المال الإبل، والناس العرب على التفضيل لا على الحصر. أو يكون هذا واردا على سبيل المبالغة تعظيما لترك الإيذاء، كما كان ترك الإيذاء هو نفس الإسلام الكامل، وهو محصور فيه على سبيل الادعاء . الأسلوب الثاني والثالث من أساليب البلاغة: أسلوب تجنيس الاشتقاق، وهو من أنواع البديع، بمعنى أن يرجع اللفظان في الاشتقاق إلى أصل واحد، نحو قوله تعالى: فأقم وجهك للدين القيم ، فإن أقم والقيم يرجعان في الاشتقاق إلى القيام . الثالث- دقة اختيار العبارة، التي تؤدي الغرض، فرسول الله صلى الله عليه وسلم اختار كلمة اليد واللسان، لأنها أدق في التعبير على المقصود، وأشمل للمعنى، يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (وفي التعبير باللسان دون القول نكتة، فيدخل فيه من أخرج لسانه على سبيل الاستهزاء. وفي ذكر اليد دون غيرها من الجوارح نكتة، فيدخل فيها اليد المعنوية، كالاستيلاء على حق الغير بغير حق). فلذا ينبغي للدعاة الاستفادة من بلاغة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله، بمحاكاتها والاستشهاد بها لإعطاء الكلام قوة وبيانا، يؤثر في الناس ويزرع فيهم الخير والهدى والعمل بهذا الدين . الفقه الثاني الذي نستفيده من هذين الحديثين هو أن من صفات الداعية الصفح وترك المؤاخذة، وهجر المعاصي: إن من أبرز صفات الداعية إلى الله سبحانه وتعالى: أنه يصفح ويترك المؤاخذة، والانتقام لنفسه، لذا قال بعض العلماء (رحمهم الله): إنه يؤخذ من هذا الحديث أن الصفح وترك المؤاخذة أولى من المطالبة والمعاقبة، ولما كان المراد بالمؤمن والمسلم الكاملين، فمن الكمال تلقي ذلك الأذى من الآخرين، بالصفح وحسن المجاوزة يقول الله سبحانه وتعالى:وأن تعفوا أقرب للتقوى وفي هذين الحديثين أيضا بيان لحقيقة الهجرة التي يهاجرها المسلم ويتصف بها، وهي هجر ما نهى الله عنه، يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله - : ( وهذه الهجرة ضربان: ظاهرة وباطنة . فالباطنة: ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان، والظاهرة: الفرار بالدين من الفتن . وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد التحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه إلى أن قال - بل حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نهى الله عنه، فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع من معاني الحكم والأحكام ). وأيضا ينبغي للمسلم ، أن يكف أذاه عن الآخرين ، بأن يحرص على أن لا يسب بعض الناس ، ولا ينم عنهم ، ولا يغتاب بعضهم ، ولا يسعى في أي نوع من أنواع الشر والفساد، لأن اللسان من أشد الجوارح خطرا على الإنسان ، لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو - على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم رواه الترمذي وصححه الألباني . وأيضا من كف الأذى الذي يتصف به المسلم ، أن لا يعتدي على بعض الناس بالضرب، أو الجرح، أو أخذ المال، أو ما أشبه ذلك . الفقه الثالث الذي نستفيده من هذين الحديثين هو: أهمية مراعاة أحوال المدعوين وحاجاتهم وظروفهم وأزمنتهم وأمكنتهم: إن في إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل بشيء، وإجابته لرجل آخر سأل السؤال نفسه بشيء آخر درسا للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، وفائدة دعوية مهمة، وهي:مراعاة المدعوين وأحوالهم، وأعرافهم وأمكنتهم، وأزمنتهم في حدود ما أذن به الشرع، فما يقال لشخص، قد لا يقال لشخص آخر، وما يقال في مكان، قد لا يصلح أن يقال في مكان آخر، وهكذا تتغيير موضوعات الدعوة وإجابات السائلين، بتغيير الأحوال والظروف والأزمنة والأمكنة والأشخاص، يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (وعلى تقدير اتحاد السؤالين، جواب مشهور، وهو الحمل على اختلاف حال السائلين أو السامعين، فيمكن أن يراد في الجواب الأول تحذير من خشي من الإيذاء بيد أو لسان، فأرشد إلى الكف، وفي الثاني ترغيب من رجي فيه النفع العام بالفعل والقول، فأرشد إلى ذلك، وخص هاتين الخصلتين بالذكر لمسيس الحاجة إليهما في ذلك الوقت، لما كانوا فيه من الجهد، ولمصلحة التأليف، ويدل على ذلك أنه عليه الصلاة والسلام، حث عليهما أول ما دخل المدينة . ولفظه هو : أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام. رواه الترمذي . ويقول الإمام السنوسي - رحمه الله - : وفي اختلاف الجواب عن سؤال الواحد، دليل على أن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأعراف، وحتى في الفتاوى، كما ذكره المتأخرون من أنها إذا كانت مبنية على العرف، ينبغي أن تتنوع بتنوعه، ولا يوقف فيها مع منصوص المتقدمين التي بنوها على عرفهم المنقضي، وهو تحقيق من النظر، وكذا ينبغي للواعظين أن ينوعوا الوعظ بحسب ما تدعوا الحاجة إليه. بتذكير الناس ما جهلوه، وتذكيرهم ما نسوه، وتحريضهم على ما أهملوه. قالوا: ولهذا جرت عوائد خطباء المشرق وقدماء الأندلس بتنويع الخطب، بحسب الحاجة الوقتية، للتنبيه على ما يفعل الناس لذلك، فيحصل للسامعين أعظم منفعة، أو أكبر فائدة، وأهمل هذا أهل الغرب، بل طالما أنكره وانتقده من ينتمي منهم للعلم، ولو علم هذا ما اشتملت عليه خطبه صلى الله عليه وسلم، وخطب خلفائه رضي الله عنهم، وأئمة الصدر الأول من ذلك لما أنكره. فلذا ينبغي للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، الحرص على مراعاة أحوال المدعوين وظروفهم وأزمنتهم وأمكنتهم ومجتمعاتهم في حدود ما أذن به الشرع، لتحصيل أكبر فائدة للمجتمع، ونجاح وانتشار للدعوة .