فقه الدعوة إلى الله (حديث أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم)

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد: فحديث هذه المقالة هو ما رواه الإمامان البخاري ومسلم (رحمهما الله تعالى) أن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنهما، قال وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه فرجعت، فقلت: زملوني زملوني فأنزل الله تعالى: يا أيها المدثر قم فأنذر إلى قوله: والرجز فاهجر فحمي الوحي وتتابع. وفي رواية عند البخاري: عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ثم فتر عني الوحي فترة، فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه، حتى هويت إلى الأرض.. وفي رواية أخرى: عن يحيى بن أبي كثير سألت أبا سلمة بن عبدالرحمن عن أول ما نزل من القرآن ؟ قال: يا أيها المدثر، قلت يقولون: اقرأ باسم ربك الذي خلق، فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، عن ذلك، وقلت له مثل الذي قلت. فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جاورت بحراء. فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا،ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا،ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا، فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا علي ماء باردا قال: فدثروني وصبوا علي ماء باردا قال: فنزلت يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر. الألفاظ الغريبة في الحديث :- من الألفاظ الغريبة التي تحتاج إلى شرح وبيان في هذا الحديث، الألفاظ الآتية: - كلمة جواري في قوله فلما قضيت جواري: المجاورة، أراد بها: لزوم المكان والاعتكاف فيه. - الرجز: هي الأوثان في قول الأكثرين، وقيل الشرك، وقيل الذنب. وحقيقة الرجز في اللغة العذاب، وتأويله على هذا كأنه قال: ما يؤدي إلى عذاب الله فاهجر. - فحمي الوحي: أي جاء كثيرا. - فجئثت: كلمة بمعنى فزعت، ورجل مجؤث أي مذعور. الفقه الدعوي في الحديث :- أخي القارئ: وبعد أن شرحنا بعض الألفاظ الغريبة في هذا الحديث، تعال بنا لننظر في الفقه الدعوي الذي نستفيده منه، وهو على النحو الآتي : الأول - أهمية الجد والنشاط في الدعوة إلى الله تعالى: إن المتأمل في قول الله سبحانه: يا أيها المدثر قم فأنذر، يلمس منه الحث على الجد وقوة العزم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، قال الحافظ ابن كثير (رحمه الله): وقوله تعالى: قم فأنذر أي: شمر عن ساق العزم وأنذر الناس). ويقول العلامة ابن سعدي (رحمه الله): قم أي: بجد ونشاط فأنذر الناس. فلذا ينبغي للداعية أن يتنبه لذلك الأمر، وأن يقدم على الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، بجد وقوة ونشاط، فطريق الدعوة طويل ومليء بالصعاب والعقبات، لا يسير فيه ويثبت عليه إلا أصحاب القوة والنشاط والهمم العالية. الفقه الثاني الذي نستفيده من هذا الحديث هو :- أهمية الاستعداد للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. إن الله سبحانه وتعالى (في سورة المدثر) بعد أن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالنذارة والدعوة إليه، أمره بأخذ الاستعداد لذلك من خلال الأمور الآتية: أولا - أمره بتكبير ربه فقال سبحانه وتعالى: وربك فكبر فإن كل أحد، وكل شيء، وكل قيمة، وكل حقيقة.. صغير، والله وحده هو الكبير المتعال، فهذا توجيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليواجه نذارة البشرية، ومتاعبها وأهوالها وأثقالها، بهذا التصور، وبهذا الشعور، فيستصغر كل كيد، وكل قوة، وكل عقبة. ثانيا - أمره بتطهير ثيابه فقال سبحانه وتعالى: وثيابك فطهر، يقول العلامة ابن سعدي (رحمه الله): يحتمل أن المراد بالثياب، أعماله كلها، وبتطهيرها تخليصها والنصح بها، وإيقاعها على أكمل الوجوه، وتنقيتها عن المبطلات والمفسدات، والمنقصات من شر ورياء، ونفاق، وعجب، وتكبر، وغفلة وغير ذلك مما يؤمر العبد باجتنابه في عباداته، ويدخل في ذلك تطهير الثياب من النجاسة، فإن ذلك من تمام التطهير للأعمال (إلى أن قال) ويحتمل أن المراد بثيابه، الثياب المعروفة، وأنه مأمور بتطهيرها عن جميع النجاسات، في جميع الأوقات، خصوصا عند الدخول في الصلوات. وإذا كان مأمورا بطهارة الظاهر، فإن طهارة الظاهر من تمام طهارة الباطن أهـ. فملابسة الإنذار والتبليغ، ومزاولة الدعوة في وسط التيارات والأهواء والمداخل والدروب، وما يصاحب هذا ويلابسه من أدران وأقذار وأخلاط وشوائب، تحتاج من الداعية إلى الطهارة الكاملة كي يملك استنقاذ الملوثين دون أن يتلوث، وملابسة المدنسين من غير أن يتدنس. ثالثا- من الأمور التي تدخل تحت الأمر بالاستعداد: أمره بهجران الشرك فقال سبحانه وتعالى: والرجز فاهجر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان هاجرا للشرك ولموجبات العذاب حتى قبل النبوة، ولكن هذا التوجيه، يعني التأكيد على هذا الأمر وخطورته، ويعني المفاصلة وإعلان التميز الذي لا صلح فيه ولا هوادة، بين طريق الإيمان والتوحيد، وطريق الكفر والشرك. فهما طريقان مفترقان لا يلتقيان. رابعا- وأمره بترك المن بما يقدمه من الجهد، أو استكثاره واستعظامه فقال سبحانه وتعالى: ولا تمنن تستكثر، فمن سلك طريق الدعوة إلى الله جل وعلا، لابد أن يعرف أنه سيبذل الكثير، وسيلقى الكثير، وسيقدم الكثير من الجهد والتضحية والعناء، وهذه الدعوة لا تستقيم في نفس تحس بما تبذل فيها، فالبذل من الضخامة بحيث لا تحتمله النفس إلا حين تنساه. بل حين لا تستشعره من الأصل، فكل ما تقدمه هو من فضل الله وعطاياه، الذي يستحق الشكر، لا المن والاستكثار. خامسا- ويأمره أخيرا بالصبر فيقول سبحانه وتعالى: ولربـك فاصبر، وهي الوصية التي تتكرر عند كل تكليف بهذه الدعوة، والصبر هو الزاد الأصيل في هذه المعركة الشاقة بين الإيمان والتوحيد، والكفر والإلحاد. وكل هذه الأوامر وإن كان المخاطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالدعاة تبعا له حيث يقول الله جل وعلا قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني فلذا ينبغي للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، الاستعداد للدعوة بهذا الزاد لتتحقق أعظم النتائج والآثار المرجوة. الفقه الثالث الذي نستفيده من هذا الحديث هو: جلوس الداعية على مكان مرتفع أثناء التعليم، والتزام التؤدة والوقار والهيئة الحسنة: فإن في جلوس الملك عليه السلام على الكرسي لا سيما وهو مرتفع بين السماء والأرض، بحيث لا يحتاج إلى ارتفاع على الكرسي، دليل على جلوس العالم والداعي للتعليم على الكرسي ليستمع الناس منه، وليكونوا على السواء في مواجهته، والأخذ عنه، لا سيما إن كثروا، ومن ثم شرع المنبر في الجمع والأعياد ومحل الخطب. والملك وإن كان مستغنيا عن الكرسي بإمكان ثبوته في الهواء كما ثبت مع الكرسي فيه، لكنه تعليم وإشارة إلى التزام المعلم التؤدة والوقار والهيئة الحسنة . الفقه الرابع الذي نستفيده من هذا الحديث هو:- أسلوب ملاطفة المدعو وتأنيسه في الكلام: إن في خطاب الله سبحانه وتعالى، لنبيه صلى الله عليه وسلم، في بداية سورة المدثر بــ: يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر، فيه ملاطفة وتأنيس له، يقول العلامة السنوسي (رحمه الله): ومن عادة العرب إذا قصدت الملاطفة أن تسمي المخاطب باسم مشتق من الحالة التي هو فيها، كقوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة رضي الله عنه، في الحديث الذي رواه مسلم: قم يا نومان. ولعلى رضي الله عنه، في الحديث الذي رواه البخاري: قم أبا تراب. ولو ناداه سبحانه في حالة كربه هذه باسمه، أو بالأمر المجرد من هذه الملاطفة لهاله ذلك، ولكن لما بدأ بـ يا أيها المدثر أنس وعلم أن ربه راض عنه. فلذا ينبغي للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، مراعاة هذا الأسلوب مع المدعوين وملاطفتهم وتأنيسهم في الكلام، وخصوصا مع من كان فزعا، أو خائفا، أو غاضبا. فإن ذلك أدعى لإقباله عليه، والاستجابة لما يدعوه إليه. الفقه الخامس الذي نستفيده من هذا الحديث هو: - الحث على العلم والتعليم، والصبر عليه: في هذا الحديث حث على طلب العلم والصبر عليه، وذلك يظهر من خلال صبر الرسول صلى الله عليه وسلم على ما كان يلاقيه من نزول الوحي عليه من مشقة، وخوف، حتى أنه كان يتلفف في الثياب ويتدثر بها من شدة ما يجد، يقول العلامة السنوسي (رحمه الله) فيه: إشارة إلى التحريض على التزام العلم فإنه يوصل صاحبه إلى المراقي العلية من الكرسي والمنابر ونحوها، في الدنيا والآخرة... أي إن صبرت على مشاق التعليم من غيرك، ارتفعت إلى مثل هذا المقام لتعلم غيرك أهـ. الفقه السادس الذي نستفيده من هذا الحديث هو: التدرج في الدعوة: أشرنا في حلقة ماضية إلى أهمية التدرج في الدعوة إلى الله تعالى، وفي هذا الحديث ما يؤكد على هذا ويبين أهميته، فالوحي لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واحدة وعلى حالة واحدة، بل على مراحل وخطوات ودرجات، حتى حمي وتتابع. إذن فالتدرج في الأمور مع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، من باب أولى. فالتدرج شأنه عظيم، وله أهمية كبيرة في النقل والتغيير من حال إلى حال، ومن دين إلى دين.. هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد