حكم دخول الجنب والحائض والنفساء المسجد

قدمة الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد: فهذه رسالة لطيفة كتبتها منذ نحو سبعة عشر عاما جوابا على سؤال لأحد الإخوة في دمشق بمناسبة مقال نشر في إحدى المجلات الإسلامية السيارة، ذهبت فيه الكاتبة إلى تحريم دخول الحائض المسجد، فدفعني ذلك إلى البحث في هذه المسألة، والنظر في أدلتها لتجلية وجه الحق فيها فيما استطعت، فكانت هذه الرسالة التي أرجو أن تكون نافعة. وقد حاولت عرض الأقوال المختلفة، وأدلة كل قول، وترجيح ما بدا لي قويا منها، دون تعصب لأحد أو على أحد، على طريقة ما يسمى اليوم بالفقه المقارن، التي تمثل أرقى منهج لدراسة الفقه الإسلامي فإن أكن أصبت فمن الله، وله الفضل والمنة، وإن أكن أخطأت فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله من كل خطأ وتقصير. هذا وأنا أرحب بأي نقد مخلص علمي أخوي، وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين. مذاهب العلماء في المسألة اختلف العلماء في هذه المسألة منذ القديم على أربعة أقوال، ذكر ثلاثة منها العلامة ابن رشد رحمه الله تعالى فقال (في بداية المجتهد146) : فقوم منعوا ذلك بإطلاق، وهو مذهب مالك وأصحابه، وقوم منعوا ذلك إلا لعابر فيها لا مقيم، ومنهم الشافعي، وقوم أباحوا ذلك للجميع، ومنهم داود وأصحابه فيما أحسب. قلت: ونقله صاحب (الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني2165) عن زيد بن ثابت وداود وأهل الظاهر، كما نقله هو والشوكاني)(في نيل الأوطار1251)، عن المزني صاحب الشافعي. وأما القول الرابع فهو أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجد، نقله الحافظ ابن كثير(في التفسير 1502) عن الإمام أحمد، ونقله عنه وعن إسحاق بن راهويه وابن قدامة الإمام الشوكاني ومحمد شمس الحق العظيم آبادي(في عون المعبود1391)، وذكر الأخير أنهما (أي أحمد وإسحاق) خصا ذلك بالجنب دون الحائض، واحتجا بما رواه سعيد بن منصور(نقله عنه الشوكاني في (النيل) بإسناد حسن، ونقل صاحب (عون المعبود) عن ابن كثير أنه قال: هذا إسناد صحيح على شرط مسلم)، والبخاري في التاريخ الكبير(نقله صاحب (عون المعبود1392) عن المنذري أنه عزاه إليه وقال: فيه زيادة، عن عطاء بن يسار قال:( رأيت رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة). وبما روى حنبل بن إسحاق صاحب أحمد عن زيد بن أسلم (نقله الشوكاني في النيل 1251، وإسناده صحيح)، قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون في المسجد وهم على غير وضوء، وكان الرجل يكون جنبا، فيتوضأ ثم يدخل المسجد فيتحدث). قلت: وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (انظر مجموعة الفتاوى الكبرى1313، بإشراف عبد الرحمن بن قاسم)، وقد جعل الخطابي (في معالم السنن1158، بتحقيق الدعاس) رأي أحمد وإسحاق والظاهرية أو بعضهم رأيا واحدا، فقال: ( وكان أحمد بن حنبل وجماعة من أهل الظاهر يجيزون للجنب دخول المسجد إلا أن أحمد كان يستحب له أن يتوضأ إذا أراد دخوله). قلت: وما ذهب إليه الخطابي جيد وقوي. عرض الأقوال وأدلتها: هذا وقد استقرت الآراء في هذه المسألة بين المذاهب المتبوعة بين جماهير المسلمين على النحو التالي: 1 مذهب الشافعية: تحريم المكث في المسجد جالسا أو قائما أو مترددا على أي حال كان متوضئا كان أو غيره، ويجوز له العبور من غير لبث، كان له حاجة أم لا، واحتجوا بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) كما احتجو بحديث جسرة الذي سيأتي(نقله النووي في المجموع 2173 نشر زكريا يوسف). 2 مذهب الحنابلة : وهو كمذهب الشافعية إلا أنهم يبيحون العبور للحاجة من أخذ شيء أو تركه أو كون الطريق منه، فأما لغير ذلك فلا يجوز بحال. (انظر المغني لابن قدامة 1200201 بتحقيق التركي والحلو). واستدلوا بالآية وحديث جسرة أيضا وبحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما : (ناوليني الخمرة (ما يستر الأرض مما يصلى عليه من حصير أو بساط أو نحوهما) من المسجد، قالت: إني حائض. قال: إن حيضتك ليست في يدك) ( رواه مسلم والترمذي 134 وأبو داود 261، والنسائي 272 وابن ماجه 632. كما منعوا الحائض من العبور إذا خشيت تلويث المسجد. وقالوا: إذا توضأ الجنب فله اللبث في المسجد ( انظر المغني لابن قدامة 1135-136). واحتجوا بحديث زيد بن أسلم عن الصحابة أنهم كانوا يتحدثون في المسجد على غير وضوء، وكان الرجل يكون جنبا فيتوضأ، ثم يدخل فيتحدث(تقديم تخريج هذا الأثر في التعليق رقم 5 في ص 6 من هذا البحث)، وهذا إشارة إلى جميعهم فيكون إجماعا يخص به العموم، ولأنه إذا توضأ خف حكم الحدث فأشبه التيمم عند عدم الماء، ودليل خفته أمر النبي صلى الله عليه وسلم الجنب به أي بالوضوء، إذا أراد النوم، واستحبه له إذا أراد الأكل ومعاودة الوطء، فأما الحائض فلا يباح لها اللبث لأن وضوءها لا يصح (انظر المغني لابن قدامة 1135137)، وهذا رأي إسحاق بن راهويه أيضا. 3 مذهب الحنفية والمالكية: تحريم المكث والعبور بأي حال وبأي شكل، واحتجوا بحديث جسرة المتقدم، وبحديث أبي سعيد الخدري، وقالوا عن هذا الحديث: ( هو بإطلاقه حجة على الشافعي في إباحة الدخول على وجه العبور والمرور(لأنه لم يفصل بين الدخول للمرور وبينه للمقام فيه) وأجاز الحنفية له العبور إذا لم يجد بدا منه، فيتوضأ أويتيمم ثم يمر، ونقل هذا عن سفيان الثوري وإسحاق بن راهويه أيضا. (انظر المحلى 2184-187، والمجموع 1173). (انظر فتح القدير 1114-115 والمحلى 2185) (انظر المدونة 132 والمحلى 2185). 4 مذهب الظاهرية: داود وابن حزم إباحة المكث في المسجد للجنب والحائض والنفساء مطلقا دون قيد ولا شرط(انظر المحلى 2184-187، والمجموع 1173). وإلى هذا ذهب ابن المنذر والمزني ونقل عن زيد بن أسلم (نقل النووي في المجموع 2173، أنه حكاه الشيخ أبو حامد عنه)، واحتجوا بالأصل في الأشياء وهو عدم التحريم، وقالوا: إنه ليس لمن حرم دليل صحيح صريح، واستدلوا بالإضافة إلى ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم:( المسلم لا ينجس) (رواه الشيخان عن أبي هريرة)، وبأنه قد أبيح للمراة المكث في المسجد، فالمسلم الجنب أولى، (انظر المحلى لابن حزم2184-185، والمجموع 1174) وبأن أهل الصفة كانوا يبيتون في المسجد بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم من يحتلم، وما نبهوا قطعا إلى ذلك، وبحديث عائشة: (إن وليدة سوداء كانت لحي من العرب، فأعتقوها فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت فكان لها خباء في المسجد أو حفش (هو بكسر الحاء وسكون الفاء: البيت الصغير جدا من الشعر وغيره). أسباب الخلاف ويمكن تلخيص أسباب الخلاف بين المانعين على اختلاف آرائهم وبين المبيحين مطلقا في سببين اثنين: أولهما: الاختلاف في تفسير قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) سورة النساء :42. قال ابن رشد في بيان ذلك: (وسبب اختلاف الشافعي وأهل الظاهر هو تردد الآية بين أن يكون فيها مجاز حتى يكون هنالك محذوف مقدر، وهو موضع الصلاة أي لا تقربوا موضع الصلاة، ويكون عابر السبيل استثناء من النهي عن قرب موضع الصلاة، وبين أن لا يكون هنالك محذوف أصلا، وتكون الآية على حقيقتها، ويكون عابر السبيل هو المسافر الذي عدم الماء وهو جنب، فمن رأى أن في الآية محذوفا أجاز للجنب المرور في المسجد، وأما منع العبور في المسجد فلا أعلم له دليلا إلا ظاهر ما روي عنه عليه الصلاة والسلام). قلت: ثم ذكر الحديث الذي سيأتي والذي هو سبب الخلاف الثاني. وعرض الإمام ابن جرير إلى تفسير الفريقين المختلفين فقال: (اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم معنى ذلك: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها جنبا إلا عابري سبيل، يعني إلا أن تكونوا مجتازي طريق أي مسافرين حتى تغتسلوا. وقال آخرون: معنى ذلك: لا تقربوا المصلى للصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوه جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل يعني إلا مجتازين فيه للخروج منه، فقال أهل هذه المقالة: أقيمت الصلاة مقام المصلى والمسجد، إ ذ كانت صلاة المسلمين في مساجدهم أيامئذ لا يتخلفون عن التجمع فيها، فكان في النهي عن أن يقربوا الصلاة كفاية عن ذكر المساجد والمصلى الذي يصلون فيه (في التفسير 8379و380 بتحقيق الأخوين شاكر، وإسناده ضعيف، فيه ضعيفان: ابن أبي ليلى وسفيان بن وكيع). وممن ذهب من الصحابة إلى التفسير الأول وأن المراد بعابري السبيل في الآية المسافرون: الخليفة الراشد الرابع على بن أبي طالب رضي الله عنه، رواه عنه الأئمة: ابن أبي حاتم (في تفسره وقد نقله الحافظ بن كثير في التفسير 1501 ورجال إسناده ثقات إلا ابن ليلى وهو على صدقه سيئ الحفظ ولكن ذكر الحافظ ابن كثير أنه رواه ابن حاتم من وجه آخر. وابن جرير (في سننه 1216) والبيهقي ( في مصنفه 1157، وفي إسناده ابن أبي ليلى ضعيف سيئ الحفظ وباقي رجال ثقات) وابن أبي شيبة (في الدر المنثور2165) إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر، وإسناده بطرقه جيد)، وعزاه الحافظ السيوطي إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر، وإسناده بطرقه جيد. وقال به أيضا حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، روى ذلك عنه الإمام ابن جرير (في التفسير 8379-380). وأبو بكر بن أبي شيبة (في مصنفه 1157، وصححه ابن التركماني في الجوهر النقي 2442، وهو مطبوع في ذيل سنن البيهقي)، من طريقين بإسناد صحيح جدا( وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2165 إلى عبد بن حميد في تفسيره. ومن التابعين سعيد بن جبير (رواه عنه الإمام ابن جرير في التفسير 8380 رقم 9538 و9547 و9548 بإسناد غاية في الصحة)، ومجاهد بن جبر (رواه عنه عبد الرزاق في مصنفه ( 14131615 بإسناد صحيح وابن جرير 83809542، 9543و9541و9544و9569، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2165) إلى عبيد بن حميد في تفسيره من طرق إسناد أحدها حسن لذاته وهو بمجموعها صحيح)، والحسن بن مسلم بن يناق المكي ( رواه عن ابن أبي شيبة في المصنف 1157 بإسناد صحيح، وابن جرير في التفسير 83819545). وروي بأسانيد تحتاج إلى تتمة بحث عن الحكم بن عتيبة (رواه ابن جرير في التفسير 83819546 و 9547 و9549). والأرجح ثبوته عنه، وروي من طريق ضعيفة عن عبد الله بن كثير (رواه ابن جرير رقم 9550 وفيه عنعنة ابن جريج وهو مدلس)، وزيد بن أسلم (رواه ابن جرير رقم 9551 وفيه ابنه عبد الرحمن وهو ضعيف جدا)، وسليمان بن موسى (رواه عنه ابن أبي شيبة في المصنف 1157 وإسناده صحيح لولا أن فيه عنعنة ابن جريج)، وعمرو بن دينار(رواه عنه عبد الرزاق في المصنف 1142-4131614وفي إسناده عنعنة ابن جريج)، ونقله العلامة النيسابوري ( في تفسره تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان 555، وهو على هامش طبعة بولاق من تفسير العلامة ابن جرير)، عن أكثر العلماء فقال: (وثانيهما وعليه الأكثرون أن المراد نفس الصلاة، والمعنى النهي عن الصلاة في حالتين: الأولى حالة السكر إلا إذا علموا ما يقولون، ومعنى قربان الصلاة: غشيانها والقيام إليها. والثانية حالة الجنابة ويستثنى منها عبور السبيل، ويراد به في هذا القول السفر أي لا تقربوا الصلاة في حالة الجنابة إلا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها وهي حالة السفر. وقال الحافظ ابن كثير (في تفسيره 2501) ويستشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن من حديث أبي قلابة عن عمر بن نجدان عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر حجج(أي سنين)، فإذا وجد الماء فأمسسه بشرتك، فإن ذلك خير لك)، (أورده الألباني في صحيح الجامع 3755 وصححه كما صحح 3754 شطره الأول من طريق أخرى عنه. ونصر هذا التفسير بقوة الفقهاء الظاهرية وخاصة منهم الإمام ابن حزم (انظر المحلى 2184-186)، ومن الطريف أن هذا التفسير قال به فقهاء الحنفية، مع أنهم يرون حرمة دخول الحائض والجنب المسجد مستدلين على ذلك بحديث (جسرة بنت دجاجة) الذي سيأتي الحديث عنه قريبا، وقال الإمام النووي (في المجموع 2175): قال أصحاب أبي حنيفة: المراد بالآية: إن المسافر إذا أجنب وعدم الماء جاز له التيمم والصلاة، وإن كانت الجنابة باقية لأن هذه حقيقة الصلاة). قلت: ومن الفقهاء الأحناف الذين فسروا الآية بهذا التفسير المرغيناني وابن الهمام (في كتاب الهداية 1115 من فتح القدير) وغيرهما. وأما التفسير الثاني وهو أن المقصود من عابري السبيل المارون في المسجد فلم يثبت عن أحد من الصحابة فيما أعلم وروي بأسانيد ضعيفة عن عبد الله بن مسعود(رواه عنه ابن جرير في التفسير 83829552، وعبد الرزاق في المصنف 14121613 وكلاهما من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه وفيه انقطاع، لأن أبا عبيدة لم يسمع من ابيه، وعبد الله بن عباس ( رواه ابن جرير 83829553، 9555 وعزاه الحافظ ابن كثير في التفسير 1501 إلى ابن أبي حاتم، وفي إسناده عندهما أبو جعفر الرازي واسمه عيسى بن عبد الله بن ماهان قال الحافظ في التقريب: صدوق سيئ الحفظ)، وأما التابعون فقد ثبت هذا القول عن سعيد بن المسيب(رواه عنه ابن أبي شيبة في المصنف 1146، وابن جرير في التفسير 83829554 من طريقين بإسناد حسن)، والحسن البصري(رواه عنه ابن جرير 83829557و9565 بإسناد صحيح)،، وإبراهيم بن يزيد النخعي ( رواه عنه ابن جرير 83839558و9559و9560و9568 بإسناد صحيح)، وزيد بن أسلم ( نقله صاحب المدونة 132 عن مالك عنه وهذا إسناد صحيح)، وروي بأسانيد ضعيفة عن عطاء (رواه عنه ابن أبي شيبة 1146-147 بإسناد ضعيف فيه عنعنة ابن جريج وهو مدلس) وأبي عبيدة عامر بن عبد الله بن مسعود (رواه عنه ابن أبي شيبة 1146 وابن جرير 83849562 وفي إسناده شريك بن عبد الله النخعي وهو سيئ الحفظ)، وعكرمة وسعد ( رواه عنهما أبن أبي شيبة 1146 وابن جرير 9563 وفي إسناده شريك أيضا، وفي الرواية عن عكرمة ضعف آخر هو أنها من رواية سماك بن حرب عنه وهي ضعيفة مضطربة)، وسعيد بن جبير (رواه عنه ابن جرير 83839561 وإسناده ضعيف فيه شريك وهو القاضي سيئ الحفظ، والحماني وهو يحي بن عبد الحميد ضعيف متهم بسرقة الحديث)، والزهري (رواه عنه ابن جرير 83849566)، وذهب إلى هذا التفسير الإمام الشافعي، فقال الإمام النووي (في كتابه المجموع 2174): (قال بعض العلماء بالقرآن: معناها لا تقربوا مواضع الصلاة.قال الشافعي: وما أشبه ما قال بما قال، لأنه ليس في الصلاة عبور سبيل، إنما عبور السبيل في موضعها وهو المسجد، ثم قال النووي: قال الخطابي وعلى ما تأولها الشافعي تأولها أبوعبيدة بن المثنى). ورجح هذا التفسير الإمام ابن جرير (في التفسير 8384-385) فقال: (وأولى القولين بالتأويل لذلك تأويل من تأوله: ولا جنبا إلا عابري سبيل: إلا مجتازي طريق فيه، وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله: ( وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) فكان معلوما بذلك أن قوله (ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) لو كان معنيا به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله ( وإن مرضى او على سفر) معنى مفهوم. ونقل الحافظ ابن كثير (في التفسير) هذا القول عن الجمهورواستظهره، فقال بعد أن نقل كلام ابن جرير السابق: ( وهذا الذي نصره هو قول الجمهور، وهو الظاهر من الآية كأنه تعالى نهى تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة وهي الجنابة المباعدة للصلاة، ولمحلها أيضا والله وأعلم). قلت: وأما شيخ الإسلام ابن تيمية فذهب إلى أن النهي في الآية هو عن قربان الصلاة وقربان مواضعها أيضا(انظر الفتاوى الكبرى تقديم مخلوف 1126). سبب الخلاف الثاني هو الاختلاف في الاحتجاج بحديث جسرة بنت دجاجة (بكسر الدال كذا ضبطها ابن دقيق العيد ونقل ذلك عن ابن القطان، ونقله صاحب العون عن الزمخشري ووافقه مغلطاي وبه جزم العلامة أحمد شاكر في تعليقه على المحلى لابن حزم 2185)، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد (وجوه البيوت: أبوابها، وشارعة في المسجد أي مفتوحة إليه، يقال: شرعت الباب إلى الطريق أي أنفذته إليه(عن النهاية لابن الأثير)قال صاحب عون المعبود1389:كانت أبواب بعض البيوت حول مسجده صلى الله عليه وسلم مفتوحة يدخلون منها في المسجد ويمرون فيه، فأمروا أن يصرفوها إلى جانب آخر من المسجد)، فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد(أي اصرفوا وجوهها عنه)، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل فيهم رخصة. فخرج إليهم بعد فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب(رواه أبوداود232 تعليق الدعاس و 229 من عون المعبود). وجاء من طريق أخرى عن جسرة عن أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم صرحة هذا المسجد، فنادى أعلى صوته: إن المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض (رواه ابن ماجة 645وعزاه الشوكاني في نيل الأوطار1250 والحافظ العسقلاني في التلخيص الحبير51 للطبراني أيضا، وقال الحافظ: حديث الطبراني أتم) قلت: وقد اختلف العلماء في هذين الحديثين من حيث الاحتجاج بهما اختلافا كبيرا، فأما الأول فصححه ابن خزيمة (نقله عن الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام 25 بتحقيق حامد الفقي وتعليقه)، والشوكاني (في نيل الأوطار 1250) وحسنه ابن القطان (نقل ذلك عنه الحافظ الزيلعي في نصب الراية 1194) والحافظ العسقلاني في التلخيص 51)، والزيلعي ( في نصب الراية 1194) وابن سيد الناس (نقل عنه الشوكاني في النيل 1250 أنه قال: ولعمري إن التحسين لأقل مراتبه لثقة رواته ووجود الشواهد له من خارج، قلت: وسامحه الله تعالى فإن قوله لعمري: قسم بغير الله وهو حرام، فعله قال ذلك سهوا)، وضعفه ابن الرفعة بأفلت بن خليفة روايه عن جسرة، وذهب إلى أنه متروك(نقله عنه الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 51 وذكر أنه قال ذلك في أواخر شروط الصلاة، ولكن رده بأنه لم يقل ذلك فيه أحد من أئمة الحديث، بل قال الإمام أحمد: ما أرى به بأسا). ورده الحافظ العسقلاني(في التلخيص 51) فقال: إنه لم يقله أحد من أئمة الحديث بل قال أحمد: ما أرى به بأسا. وبالغ ابن حزم، فقال بعد أن سرد الأحاديث المذكورة كلها:(وهذا كله باطل أما أفلت فغير مشهور ولا معروف بالثقة، وأما محدوج فساقط يروي المعضلات عن جسرة. وأبو الخطاب الهجري مجهول، وأما عطاء الخفاف فهو عطاء بن سلم منكر الحدث، وإسماعيل مجهول، ومحمد بن الحسن مذكور بالكذب وكثير بن زيد مثله، فسقط كل ما في هذا الخبر جملة). وقال البيهقي (في معرفة السنن والآثار نقله النووي عنه في المجموع 2174 والألباني في تمام المنة 143): ليس بقوي. قال البخاري: عند جسرة عجائب وقال: وقد خالفها غيرها في سد الأبواب، وقال الخطابي بعد ما ذكر رأي أحمد بن حنبل والظاهرية في تجويز دخول الجنب المسجد: (وضعفوا هذا الحديث وقالوا: أفلت راويه مجهول لايصح الاحتجاج بحديثه). وقال الحافظ ابن عبد البر الأندلسي( في بداية المجتهد 147): ( هو حديث غير ثابت عند أهل الحديث). وأما الحافظ المنذري فقال (في مختصر نقله الزيلعي في نصب الراية 1194، وشمس الحق في العون 1392) معلقا على ما نقله الخطابي من تضعيف بعضهم الحديث بجهالة أفلت: (وفيما قاله نظر فإنه أفلت بن خليفة ويقال: فليت العامري ويقال الذهلي، كنيته أبو حسان حديثه في الكوفيين، روى عنه سفيان الثوري وعبد الواحد بن زياد وقال أحمد بن حنبل: ما أرى به بأسا، وسئل عنه أبو حاتم فقال: شيخ، وحكى البخاري أنه سمع من جسرة بنت دجاجة، فقال: وعند جسرة عجائب، وأما الدار قطني (نقله عنه ابن القيم في شرح سنن أبي داود المطبوع مع شرح عون المعبود 1388) فقال: أفلت بن خليفة صالح). وأما الحديث الثاني فضعفه الحافظ البوصيري فقال(في كتابه مصباح الزجاجة زوائد سنن ابن ماجة 432 وهو مخطوط في المكتبة الوطنية بحلب برقم 185، وعندي منه نسخة نقلتها من نسخة أستاذي الألباني):( إسناده ضعيف، محدوج لم يوثق، وأبو الخطاب مجهول) ثم أشار لطريق أبي داود وقال: هو شاهد لحديث أم سلمة. ثم قال: وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري رواه الترمذي في الجامع (رقم 3811 من التحفة)، وقال: حديث حسن غريب. قلت: ولفظ حديث أبي سعيد هذا قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا علي لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك. وإسناده ضعيف، فيه عطية العوفي لا يحتج به، وقال الترمذي: سمع البخاري مني هذا الحديث فاستغربه. وقال ابن القيم بعد أن ذكر تضعيف ابن حزم لحديث أم سلمة بزيادة الاستثناء لضعف راويه عطاء الخفاف وجهالة راويه الآخر إسماعيل قال (في عون المعبود 1389-391). وليس الأمر كما قال أبو محمد فقد قال ابن معين في رواية الدوري: إنه ثقة، وقال في رواية الدرامي وابن أبي خيثمة: ليس به بأس. وقال في رواية الغلابي: يكتب حديثه، وقال أحمد: كان يحيى بن سعيد حسن الرأي فه وكان يعرفه معرفة قديمة، وأما إسماعيل فإن كان إسماعيل بن رجاء بن ربيعة الزبيدي، فإنه ذكر في ترجمة ابن أبي غنية أنه روى عن إسماعيل هذا، ولم يذكر في شيوخه إسماعيل غيره فهو ثقة، وروى له مسلم في الصحيح، وبعد فهذا الاستثناء أي إلا محمدا وأزواجه وعليا وفاطمة، باطل موضوع من زيادة بعض غلاة الشيعة ولم يخرجه ابن ماجه في الحديث. وقال أستاذنا الألباني (في تمام المنة على كتاب فقه السنة لسيد سابق 143) منتقدا إيراد صاحب فقه السنة للحديثين الأولين: (سوق الحديث على هذه الصورة يوهم القارئ أنهما حديثان بإسنادين متغايرين، أحدهما عن عائشة والأخر عن أم سلمة، وليس كذلك بل هما حديث واحد بإسناد واحد، مداره على جسرة بنت دجاجة اضطربت في روايته، فمرة قالت: عن عائشة ومرة قالت: عن أم سلمة. والاضطراب مما يوهن به الحديث كما هو معروف عند المحدثين، لأنه يدل على عدم ضبط الراوي وحفظه، يضاف إلى ذلك أن جسرة هذه لم يوثقها من يعتمد على توثيقه بل قال البخاري:عندها عجائب) ثم قال: (وللحديث شاهدان لا ينهضان لتقويته ودعمه؛ لأن في أحدهما متروكا وفي الآخر كذابا). النتيجة والترجيح والراجح عندي بعد ما سبق من الشرح والبيان قول الظاهرية داود بن علي وابن حزم الاندلسي بالإضافة إلى الإمامين أبي بكر المنذر والمزني صاحب الشافعي، أنه يباح للجنب ومن في حكمه كالحائض والنفساء الدخول إلى المسجد مطلقا، سواء أقاموا فيه أو عبروا أو لغير حاجة، وإن كان الأفضل والمندوب أن يكونوا على طهارة كاملة، ولكنهم إن لم يكونوا متحققين بها فلا يحرم عليهم الدخول ولا يأثمون للأدلة التالية: أولا: إن الأصل في الأحكام الإباحة، ولم يأت نص صحيح ينقل عن هذا الأصل إلى التحريم. أ فأما الآية الكريمة ( ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) فتفسيرها الأقوى أن الله تعالى ينهى السكران عن قربان الصلاة ومباشرتها بذاتها حتى يصحو ويعي ما يقول(كان ذلك قبل تحريم الخمر التحريم النهائي القاطع)، كما ينهى عن مباشرة الجنب الصلاة حتى يغتسل، ولكنه يسمح له بها في حالة واحدة، وهي حين يكون مسافرا ولا يجد الماء، فيتيمم ثم يصلي. وأما تفسير المانعين وهو أن المراد من الآية نهي الجنب عن الاقتراب من مواضع الصلاة وهي المساجد حتى يغتسل، والسماح له بالمرور فيها دون مكث فقط فهو تفسير ضعيف مرجوح من وجوه: 1 إن من القواعد العلمية اللغوية أن الأصل في الكلام الحقيقة، ولا يصرف عنها إلى المجاز إلا حين يتعذر ذلك، أو حين توجد قرينة تدل على ذلك، ولا تعذر في حمل الآية على الحقيقة أبدا، كما أنه لا قرينة تصرفها عنها إلى المجاز، فوجب بقاؤها على الحقيقة، وهي أن المراد من (الصلاة) الصلاة ذاتها وليس (مواضعها) كما يقول المانعون، ولو كان المراد منها ما قالوه لوضح الله سبحانه ذلك وبينه، وذلك عليه سبحانه يسير جد يسير، لأنه لا يجوز أن يظن أن الله تعالى أراد أن يقول: ( لا تقربوا مواضع الصلاة) فيلبس علينا فيقول: ( لا تقربوا الصلاة) كما قال ابن حزم(المحلى 2184-185). 2 إن تأويل المانعين للآية يجعل بعضها مخالفا لبعضها الآخر حيث يفسرون الصلاة في الجملة الأولى الخاصة بالسكارى بـ(الصلاة ذاتها) بينما يفسرونها بالنسبة للجملة الثانية بالاسم المعطوف على السكارى وهو الجنب على أنها (مواضع الصلاة) وهذا لعمر الله خلاف العدل والإنصاف إذ يشبه الكيل بمكيالين والوزن بميزانين. والعدل والإنصاف يقتضيان أن نحمل الصلاة في كلا الموضعين على أمر واحد سواء كان حقيقة أم مجازا، أي سواء كان (مواضع الصلاة) أو (الصلاة) ذاتها، وبما أنه لا يصح حمل الجملة الأولى على المجاز، لأنه لم يقل عالم مسلم واحد فيما أعلم: إنه يحرم على السكران الطاهر من الجنابة، وخاصة حينما كان السكر مباحا-الدخول إلى المسجد. أقول: فلم يبق إلا حمل الصلاة في الموضعين من الآية على الحقيقة، وبهذا لا يكون فيها أي دلالة على القول الذي ذهب إليه المانعون وهو التحريم. 3 إننا إذا فسرنا الصلاة في الموضع الثاني بأنه مواضع الصلاة فإنه ينتج حكم غريب جدا لم يخطر ببال مسلم، وهو أنه لا يجوز للجنب المكث والإقامة في أي مكان طاهر من النجاسة من الارض ما عدا المقبرة والحمام، لأنها كلها مساجد ومواضع صلاة، وليس المسجد وحده، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (جعلت الأرض لي طيبة طهورا ومسجدا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان (رواه مسلم 532 نووي عن جابر، وروى أبو داود 489 نحوه عن أبي ذر) وفي حديث آخر: (جعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء) (رواه مسلم عن حذيفة 54 بشرح النووي). وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء بما فيهن الحيض بالخروج إلى مصلى العيد، فعن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج في الفطر والأضحى ( أي صلاة عيدي الفطر والأضحى) ، العواتق ( جمع عاتق هي المرأة أول ما تدرك، وقيل: هي الشابة مالم تتزوج)، والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين(رواه الشيخان). فما دامت المساجد لا تختلف من ناحية كونها مواضع للصلاة عن أي أرض طاهرة أخرى، فما الذي خصها عن الأراضي الأخرى بالمنع؟ 4 الوجه الرابع: وأخيرا فيمكن أن نعد من وجوه الترجيح لتفسيرنا أنه وحده الثابت عن بعض الصحابة كما تقدم عن علي وابن عباس، ولا نعلم لهما مخالفا من الصحابة، وأن التفسير الآخر لم يثبت عن أحد منهم رضي الله عنهم، وهم خير القرون وأفهم الناس لكتاب الله تعالى. رد شبهة : وأما الشبهة التي أوردها ابن جرير، على هذا التفسير، وأيده فيها ابن كثير، وخلاصتها أنه سبحانه قد بين حكم المسافر الجنب الذي عدم الماء في تتمة الآية فقال: ( وإن كنتم مرضى أو على سفر، فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) وأنه لو كان المراد من قوله في أولها: ( ولا جنبا إلا عابري سبيل) المسافرين لكان في الآية تكرار، وهو غير لائق بكلام الله تعالى. أقول: هذه الشبهة مردودة لدى التأمل والتدبر، وقد بين ذلك أستاذنا الألباني ووضحه بما مؤداه: ليس هناك إشكال في هذا ولا تكرار، لأن صدر الآية يتحدث عن شيء، وآخرها يتحدث عن شيء آخر، ففي صدرها بيان حرمة قربان السكران والجنب الصلاة، واستثناء المسافرين من ذلك فحسب، وليس فيه بيان لا تصريحا ولا تلميحا، ماذا يفعل هذا الجنب المسافر، فذلك ما تولى آخر الآية بيانه وشرحه، حيث ذكر أنه عليه أن يتيمم ويصلي، وأن التيمم مجزئ عن الاغتسال، ومعروف أن هذا هو الحكم الذي استقر عليه الشرع في هذه المسألة، فهذا لا يمكن أخذه من صدر الآية أبدا، بل يؤخذ من مجموع الآية وخاصة آخرها، وأما صدرها فإنه يفيد في ظاهره أنه يمكن للمسافر الجنب الذي لا يجد الماء أن يصلي دون وضوء ولا غسل ولا تيمم، وهذا باطل، ولذلك فثمة احتمال قوي، وإن كنا لا نعلم خبرا يثبته، ليكون نزول أول الآية أول الأمر، ثم نزل باقيها بعد ذلك، كما حدث في آية الصيام: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) إذ الأمران متشابهان والله أعلم. ب وأما احتجاجهم بالحديث فلا يصح: 1 لأن حديث جسرة بن دجاجة عن عائشة وأم سلمة لا يثبت من جهة إسناده، إذ مداره على جسرة هذه وهي مجهولة بل ومجروحة، ولم يوثقها أحد ممن يعتد بتوثيقه، وبالإضافة إلى ذلك ففي حديثها هذا مخالفة لأحاديث الثقات فيما يتعلق بسد الأبواب إلى المسجد النبوي، فهي علة ضعف هذا الحديث الحقيقية، وليس افلت بن خليفة كما ذهب إليه بعضهم كما تقدم آنفا. وأفصل هذا الإجمال فأقولك قد وثق جسرة ابن حبان والعجلي فقط، ومن المعروف أنهما متساهلان في التوثيق، حتى أن ابن حبان كان يوثق المجهولين، فيورد في كتابه- الثقات- من يقوله فيه : (لست أعرفه ولا أدري من أبوه)أنظر الصارم المنكي 84-85. بل إنه ذكر في كتاب (الثقات) خلقا كثيرا، ثم أعاد ذكرهم في كتاب المجروحين وبين ضعفهم، وفي مقابل ذلك يقول البخاري إمام المحدثين في جسرة هذه: (عند جسرة عجائب) نقله البيهقي في سننه 2443، وابن حجر في التهذيب 12406 وغيرهما). وأما الحافظ العسقلاني فقد قال فيها في التقريب: (مقبولة) ومعنى ذلك أنها مجهولة، ويقبل حديثها إذا تابعها غيرها له، فيصبح حسنا لغيره، فأما إذا تفردت به فلا يقبل. قال في مقدمة كتابه المذكور (15) في بيان مراتب الرواة : (السادسة: من ليس له من الحديث إلا القليل، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، وإليه الإشارة بلفظ: (مقبول) حيث يتابع وإلا فلين الحديث). وضعف الحديث كما تقدم ابن حزم وعبد الحق الإشبيلي وابن عبد البر والبيهقي الذي نقل قول البخاري السابق وأضاف: ( وقد خالفها غيرها في سد الأبواب). وأما أستاذنا الألباني فقد تحدث عن هذا الحديث بما يوجبه النقد العلمي النزيه بتفصيل كاف شاف إن شاء الله في (تخريج سنن أبي داود رقم 32) وهو مخطوط، وفيما يلي خلاصة وافية إن شاء الله لكلامه عنه: (رجاله ثقات غير جسرة، وليست بالمشهورة ثقة وعدالة، ولم يوثقها أحد من المتقدمين ممن يوثق بتوثيقهم، فلم يوثقها غير ابن حبان والعجلي، وهما من المتساهلين في التوثيق فلا يطمئن القلب لتوثيقهما لا سيما مع تضعيف من ذكر لحديثهما، فلولا أنها غير حجة عندهم لما ضعفوه، ثم إنها لم يرو عنها من المعروفين غير أفلت هذا، وقد ذكر في- التهذيب- ومن روى عنها غيره: (قدامة بن عبد الله العامري ومحدوج الذهلي وعمر بن عمير بن محدوج) وكل هؤلاء مجهولين، بل قيل: إن قدامة هذا هو أفلت نفسه. وقد غمز البخاري جسرة هذه فقال كما نقله البيهقي 2443: (قال البخاري: وعند جسرة عجائب، ثم قال البخاري: وقال عروة وعباد بن عبد الله عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: سدوا هذه الأبواب إلا باب أبي بكر، وهذا أصح) ثم قال البيهقي: ( وهذا إن صح فمحمول في الجنب على المكث فيه دون العبور بدليل الكتاب)، ولكن قد جاءت أحاديث عن غير واحد من الصحابة في سد الأبواب في المسجد إلا باب علي. ذكرها الحافظ-في الفتح- وحسنها، وليس في شيء منها ما في حديث جسرة من سد الابواب كلها دون استثناء باب أبي بكر وعلي كما أنه ليس فيها ما فيه من تعليل ذلك بقوله: (فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب). فهذا مما يوهن من شأن هذا الحديث، وعلى هذا فعلة هذه الحديث هي جسرة وليس أفلت، وأما الطرق والشواهد المتعددة التي رويت وقواه بعضهم بها فهي كلا شيء، لأن مدارها كلها على جسرة نفسها، فلم يرد من غير طريقها من وجه مقبول، وبالإضافة إلى ذلك فقد اضطربت فيه فقالت مرة عن عائشة وأخرى عن أم سلمة. قال أبو زرعة: (يقولون عن جسرة عن أم سلمة، فالصحيح عن عائشة (نقله عنه ابن أبي حاتم في العلل 199269) وهذا مما يوهن ويزيد حديثها وهنا على وهن، نعم قد ورد شاهد للحديث عن المطلب بن عبد الله (تقدم في الصفحات الأولى من هذا البحث) ولكنه مع أنه مرسل ففيه محمد بن الحسن بن زبالة. قال أبو داود وابن معين: (كذاب) وزاد الأخير: (خبيث لم يكن بثقة ولا مأمون، يسرق) وأما حديث أبي سعيد الخدري(في التفسير 1501)، فلا يثبت إذ فيه عند الترمذي سالم بن أبي حفصة وعطية العوفي، وقال الحافظ ابن كثير: (إنه حديث ضعيف لا يثبت فإن سالما هذا متروك وشيخه عطية ضعيف). وقال الترمذي: (سمع مني محمد بن إسماعيل-يعني البخاري-هذا الحديث فاستغربه)، وأما إسناد البزار فموضوع: الحسن بن زياد، وهو اللؤلؤي، كذبه جماعة من الأئمة كابن معين وغيره). قلت: وبعد هذا التلخيص لكلام أستاذنا الألباني حفظه الله تعالى في هذا الحديث لا يبقى مجال لتصحيح الحديث بل ولا لتحسينه كما ذهب إليه بعض العلماء، ويسقط الاحتجاج به جملة وتفصيلا. ثانيا: إنه قد ثبت في السنة أن أهل الصفة (قال ابن الأثير في النهاية 337): أهل الصفة هم فقراء المهاجرين ومن لم يكن له منزل يسكنه، فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنونه)، كانوا يبيتون في المسجد النبوي وهم شباب عزاب في أوج حيويتهم وقوتهم الجنسية، ومن الطبيعي جدا فيهم أن يحتلموا فيجنبوا من غير شك، ومع ذلك فلم ينههم النبي صلى الله عليه وسلم عن المكث في المسجد والإقامة فيه، فلو كان ذلك حراما لنهاهم أو لأمرهم بالخروج، فلما لم يفعل دل ذلك على إباحة مكث الجنب في المسجد. هذا وقد ورد ذكر أهل الصفة هؤلاء في كثير من الأحاديث أكتفي بذكر بعضها ممارواه البخاري، فعن أنس (في 1ص67 رقم 39 وصفحة 125 رقم 49 من مختصره لأستاذنا الألباني) قال: ( قدم رهط من عكل أو عرينة على النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا في الصفة) وعن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: (كان أصحاب الصفة الفقراء) وروى عن أبي هريرة قال (في 1125 من المختصر): (رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء) وعن أبي هريرة أيضا من حديث طويل (1461-67 من فتح الباري): قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبا هر :قلت: لبيك يا رسول الله.قال الحق إلى أهل الصفة فادعهم-لي.قال- يعني أباهريرة، : وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، وإذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا، وإذ أتته هدية أرسل إليهم، وأصاب منها وأشركهم فيها) ونقل الحافظ العسقلاني (في الفتح 1469) عن أحمد وابن حبان والحاكم حديثا عن طلحة بن عمرو قال: (كان الرجل إذا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وكان له بالمدينة عريف نزل عليه، فإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة). ثم نقل عن ابن سعد ما رواه عن يزيد بن عبد الله بن قسيط مرسلا:( وكان أهل الصفة ناسا فقراء لا منازل لهم، فكانوا ينامون في المسجد لا مأوى لهم غيره). ثالثا: قد ثبت في السنة أن جارية سوداء كانت تنام في المسجد أيضا، فقد روي البخاري (في صحيحه 1124244 من مختصر الألباني و 280 و8150 من فتح الباري وهو جزء من حديث طويل فيه عبر وطرافة ) عن عائشة (أن وليدة سوداء كانت لحي من العرب، فأعتقوها فكانت معهم، قالت عائشة رضي الله عنها: فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، فكان لهاخباء في المسجد أو حفش ( هو البيت الصغير) فمن البدهي أن هذه الجارية تحيض كما هو شأن النساء، فلم ينهها النبي صلى الله عليه وسلم عن نومها في المسجد، فلو كان يحرم على الحائض المكث في المسجد لما سمح لها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك البتة، ولئن تكلف بعضهم فقال دون دليل له ثابت في أهل الصفة: إن أحدهم إذا أجنب فإنه كان يخرج من المسجد فيغتسل ثم يعود، أقول إذا قال بعضهم ذلك في الجنب من الرجال، فماذا يقول في هذه المرأة التي لا يمكنها إذا حاضت أن تزيل الحيض عنها بالغسل ولا بغيره، بل لا بد أن تنتظر أياما عدة حتىتطهر، فكيف يثبت في عقل عالم أنه يحرم إقامة الحائض في المسجد، وهو يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى هذه المرأة تقيم في المسجد النبوي، وهو أشرف المساجد كلها بعد المسجد الحرام. وتنام فيه، ويقرها على ذلك دون أي نكير، إن ذلك لمن أوضح الأدلة على أن مكث الجنب والحائض والنفساء في المسجد مباح لا حرمة فيه البتة. ولا يقال: إنه ليس في خبر هذه الجارية أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره، لأننا نقول: إنه من المستحيل أن تقيم امرأة في المسجد النبوي، ويكون لها فيه خباء أو حفش، ويدخل النبي صلى الله عليه وسلم ويخرج في اليوم خمس مرات على الأقل، وهو الحاكم المثالي الذي يهتم بأمر رعيته أحسن اهتمام، فلا يراها وإذا رآها فلا يسأل عنها، ويكون لدى زوجته عائشة رضي الله عنها علم بذلك، فلا تحدثه به ولا تسأله لا هي ولا غيرها من الصحابة عن الحكم الشرعي فيه. أقول: إن هذا خيال مستحيل، ووهم أي وهم، ولو فرضنا جدلا أن ذلك كان، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يطلع على الحادثة فإن رب النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع على ذلك من غير شك، فلو كان حكمه فيه سبحانه أنه حرام لأنزل فيه وحيا على نبيه وبين ذلك، حتى يكونوا على بينة من الأمر، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة كما هو معروف في القواعد الأصولية، كما لا يجوز أن يتخيل أحد أو يتصور إنسان أن الله تعالى يرى الناس يقعون في الحرام، فلا يبينه لهم ولا ينهى عباده عنه. رابعا: إقامة بعض المشركين في المسجد النبوي بإقرار من النبي صلى الله عليه وسلم وأمره: لقد ثبت في السنة المطهرة أن عددا من المشركين أقاموا في المسجد النبوي، وناموا فيه على مرأى ومسمع من النبي صلى الله عليه وسلم بل الظاهر أن ذلك كان بأمر منه صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلا ثمامة بن أثال: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له-ثمامة بن أثال- فربطوه بسارية من سواري المسجد) (رواه البخاري 2102 من فتح الباري و2452 و 382 وأبو داود والنسائي). وهناك عدة أحاديث فيها دخول المشركين إلى المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى مرأى ومسمع منه كحديث نصارى نجران وغيرهم لا حاجة إلى إيرادها، فحسبناما ذكرنا، ومن المعروف بداهة أن المشرك أغلظ وأبعد من جهة الطهارة من المسلم الجنب، لأنه ليس بعد الكفر ذنب كما يقولون أولا، ولأن المشرك جنب على كل حال ثانيا. إذا لابد أن يكون أجنب مرات ومرات، وليس من شأن المشركين الاغتسال من الجنابة، إذ هي عبادة إسلامية ولو فرض أنهم اغتسلوا فإن اغتسالهم ليس باغتسال، لأنه خال من النية، فلا يغنيهم شيئا ولا يزيل عنهم الجنابة أبدا، فإذا كان من الجائز شرعا أن يدخل الكافر المشرك الذي جمع الشرك والجنابة جميعا إلى المسجد النبوي ويقيم فيه، وهو أطهر المساجد وأشرفها بعد المسجد الحرام، فإن دخول المسلم الجنب إلى المساجد العادية، وإقامته فيها وهو طاهر على كل حال كما سيأتي، إن ذلك من باب الأولى من غير شك عند كل من لديه مسكة من فقه وإنصاف. خامسا: عدم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عائشة حين حاضت عن دخول المسجد الحرام في ال