زكـاة عروض التجـــارة

بسم الله الرحمن الرحيم تمهيــد: تؤدي الزكاة دورا مهما في المجتمع الإسلامي، فهي صورة من التكافل الاجتماعي فرضها الله عز وجل على كل قادر، ليسهم في رعاية غيره من المحتاجين إلى هذه الرعاية، بل إنها إحدى الوسائل المؤدية إلى حفظ النفس، الذي هو أحد المقاصد الخمسة التي يقصدها الإسلام بأحكامه وهي حفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال. فالزكاة مال يخرجه من وجبت عليه للفقراء والمحتاجين، وقد يكون هؤلاء الفقراء والمحتاجون في أشد الاحتياج إلى القوت ولا يستطيعون السعي لتحصيل أقواتهم، فتؤدى الزكاة إلى حفظ أنفسهم من الهلاك، أو من الضرر الذي يمكن أن تتعرض له أجسامهم نتيجة نقص الغذاء، أو تدني مكوناته عن الحد الضروري اللازم لبناء الجسم بناء عاديا. بل ربما أدى الفقر والاحتياج في بعض الأحيان إلى وقوع بعض الفقراء في الرذيلة، فإذا وجد أمثال هؤلاء حاجتهن من أموال الزكاة كان ذلك سدا لباب من أبواب الشر التي ينفذ منها الشيطان إلى نفوس البشر. ولا غرو أن كانت الزكاة فرضا من فروض الإسلام، قال تبارك وتعالى: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين (1) (سورة البقرة: الآية 43). وقال تبارك وتعالى: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله (2) (سورة البقرة : من الآية 110). ولم تكن الزكاة فرضا فحسب بل جعلها الإسلام ركنا من أركانه، كما بين ذلك حديث: بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا. فلم يتركها الإسلام لاختيار القادرين على إخراج بعض أموالهم إسهاما في بناء المجتمع، وسدا لحاجة المحتاجين، وإنما جعلها حقا معلوما لهؤلاء المحتاجين، قال تبارك وتعالى: والذين في أموالهم حق معلوم. للسائل والمحروم (3) (سورة المعارج: الآيتان24،25). وبين العلماء أن الزكاة فرضت في العام الثاني من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، بعد فرض زكاة الفطر، وهي إحدى التكاليف في الشرائع القديمة، بدليل قول عيسى عليه السلام: وأوصاني بالصلاة والزكاة فليست من خصوصيات أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا باعتبار الكيفية المشتملة على الشروط التي لابد من توفرها فيها (4) (حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم الغزي على من أبي شجاع جـ1، ص260). تعريف الزكـاة في اللغـة والشرع: الزكاة في اللغة تستعمل بمعنى النماء أي الزيادة، يقال: زكا الزرع والمعنى نما الزرع، وتستعمل بمعنى البركة، كما تقول: زكت النفقة والمعنى بورك فيها، وتستعمل بمعنى كثرة الخير، كما تقول: فلا زاك والمعنى كثير الخير، وتستعمل بمعنى التطهير، قال تبارك وتعالى: قد أفلح من زكاها (5) (سورة الشمس : الآية 9). أي طهرها من الأدناس، وتستعمل بمعنى المدح، فقال تبارك وتعالى: فلا تزكوا أنفسكم (6) (سورة النجم: الآية 32). أي لا تمدحوها (7) (المصباح المنير، للفيومي، وحاشية الباجوري جـ1، ص260 مصدر سابق). وأما الزكاة في الشرع، فهي اسم لقدر مخصوص من مال مخصوص يجب صرفه لأصناف مخصوصة بشروط (8) (مغني المحتاج لمحمد الشربيني الخطيب شرح متن المنهاج للنووي جـ1 ص368). وهناك خمسة أنواع من الأموال تجب فيها الزكاة، أربعة اتفق عليها العلماء، ونوع اختلف العلماء في وجوب الزكاة فيه. أما الأربعة فهـي: الأول: الأنعام، وهي الإبل، والبقر، والغنم، مع ملاحظة أن الجاموس كالبقر في الحكم، وكذلك الماعز كالغنم. الثاني: النقد، وهو الذهب والفضة، ولو كانا غير مضروبين، فالتبر أيضا تجب الزكاة فيه، والنقود الورقية أيضا تأخذ حكم الذهب والفضة والفضة في إيجاب الزكاة فيها. الثالث: الزروع، كالقمح، والشعير، والذرة، والأرز، واللوبيا، والعدس.. الرابع: الثمار وهي التمر، والزبيب كما يرى الإمام الشافعي. والضابط في الزروع والثمار أن تكون مما يقتات ويدخر في الأجواء العادية بدون ثلاجات، ومعنى الاقتيات أن يتخذه الناس قوتا يعيشون به وتبقى أجسامهم بالأكل منها في غير حال الضرورة، فالتفاح والجوافة والكمثرى مثلا ليست مما يقتات به عادة، وأما القمـح وما ذكرناه منعه فهو مما يحصل به الاقتيات، ويدخر، وكذلك التمر والزبيب، وهذا ما يراه مالك والشافعي (9) (مواهب الجليل من أدلة خليل للشنقيطي جـ1 ص2،3،4، والمجموع جـ5 ص492). وأما الذي اختلف العلماء فيه فهو عروض التجارة (10) (حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم جـ1 ص260). والأصح وجوب الزكاة فيها، كما سيتبين من هذا البحث الذي خصصناه للكلام عنها. معنى التجارة والعروض: التجارة كما عرفها البعض تقليب المال بالمعارضة لغرض الريح (11) (مغني المحتاج جـ1 ص397). وقال الغزالي والرافعي: مال التجارة كل ما قصد الاتجار فيه عند اكتساب الملك بالمعارضة المحضة (12) (فتح العزيز للرافعي، شرح الوجيز للغزالي، مطبوع على المجموع للنووي شرح المهذب للشيرازي جـ6 ص41). والعروض جمع عرض بسكون الراء- وهو كل مال سوى الدراهم والدنانير، أما العرض بفتح الراء- فهو شامل لكل أنواع المال، قليلا كان هذا المال أم كثيرا (13) (المصباح المنير، للفيومي مادة عرض، ولسان العرب لابن منظور). اختـلاف العلماء في زكاة عروض التجارة: اختلف العلماء في زكاة عروض التجارة، فجماهير العلماء من الصحابة، والتابعين، والفقهاء بعدهم، يرون وجوبها (14) (المجموع للنووي شرح المهذب للشيرازي جـ6 ص47، دار الفكر بالقاهرة). ويرى داود بن علي الظاهري، وابن حزم وغيرهما من أهل الظاهر عدم وجوبها، قال ابن حزم: لا زكاة في عروض التجارة، لا على مدير، ولا غيره) (15) (المحلي، لابن حزم جـ5 ص309، دار التراث بالقاهرة). ويرى ربيعة، ومالك أنه لا زكاة في عروض التجارة ما لم تنض، وتصير دراهم أو دنانير، فإذا نضت وجب على صاحب التجارة أن يزكيها لعام واحد) (16) (المجموع جـ6 ص47). ويستند الرأي القائل بعدم وجوب زكاة عروض التجارة بالحديث الصحيح: ليس على المسلم صدقة في عبده ولا في فرسه (17) (نيل الأوطار، للشوكاني جـ4 ص196). وربما جاء عن ابن عباس أنه قال: لا زكاة في العروض (18) (المجموع جـ6 ص47). أدلـة القائلين بوجوب الزكاة في عروض التجارة: أولا: قول الله تبارك وتعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم (19) (سورة البقرة من الآية رقم 267). قال مجاهد: نزلت في التجارة (20) (كفاية الأخبار لأبي بكر محمدين الحسيني الحصني جـ1 ص177). ثانيا: ما رواه الحاكم وقال: إنه على شرط الشيخين، والبيهقي في سننه أنه عليه الصلاة والسلام قال: في البز (21) (قال صاحب المصباح: البز- بالفتح- نوع من الثياب، وقيل: الثياب خاصة من أمتعة البيت، وقيل: أمتعة التاجر من الثياب صدقته (22) (المجموع جـ6 ص47). والبز كلمة تطلق على الثياب المعدة للبيع عند البزازين، ولما كانت العين لا تجب في الثياب، فتعين الحمل على زكاة التجارة. (23) (المجموع جـ6 ص47 وكفاية الأخبار جـ1 ص177). ثالثا: ما رواه أبو داود عن سمرة قال: أما بعد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي يعد للبيع (24) (المجموع جـ6 ص48). وأجاب أصحاب الرأي القائل بوجوب زكاة عروض التجارة عن حديث: ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة بأنه محمول على ما ليس للتجارة، ومعناه لا زكاة في أعيان العبيد ولا في أعيان الخيل، بخلاف الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم التي تجب الزكاة في أعيانها، قال النووي: وهذا التأويل متعين للجمع بين الأحاديث. وأجابوا عما قيل من قول ابن عباس بأنه ضعيف الإسناد، ضعفه الشافعي والبيهقي، وغيرهما(25) (المصدر السابق). وبناء على ما بيناه يكون رأي القائلين بوجوب الزكاة في عروض التجارة هو الراجح. شروط وجوب زكاة عروض التجارة: أولا: أن ينوي التجارة في العروض. ثانيا: اشترط الشافعية أن يكون العرض ملك بعقد فيه عرض، كالبيع والإجازة، والزواج، والخلع(26) (الخلع مقابل مال راجع إلى جهة الزوج). قال الشيرازي أحد فقهاء الشافعية: ولا يصير العرض للتجارة إلا بشرطين: أحدهما: أن يملكه بعقد فيه عرض كالبيع والإجازة، والنكاح، والخلع، والثاني: أن ينوي عند العقد أنه تملكه للتجارة، وأما إذا ملكه بإرث، أو وصية، أو هبة من غير شرط الثواب فلا تعتبر للتجارة بالنية، وإن ملكه بالبيع والإجارة ولم ينو عند العقد أنه للتجارة لم يصر للتجارة. ورأى الشافعية هذا يراه المالكية، ومحمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة، ولا يرى الحنابلة وأبو سيف تلميذ أبي حنيفة أيضا اشتراط أن يملكه بعقد فيه عوض، بل الشرط عندهم أن يكون ملكه بفعله سواء أكان بمعارضة أم بغيرها من أفعاله، كالبيع، والزواج، والخلع، والهبة والوصية، واكتساب المباحات، ونقل الشيرازي عن الكرابيسي أحد فقهاء الشافعية أيضا أنه إذا ملك الشخص عرضا ثم نوى أنه للتجارة صار للتجارة، واستدل الكرابيسي لهذا الرأي بالقياس على ما إذا كان عند الشخص متاع للتجارة ثم نوى القنية صار للقنية بالنية، كما بين الشيرازي أن ما يراه الكرابيسي يراه أيضا إسحاق بن راهوية، ثم بين أن المذهب في فقه الشافعية هو أنه لا يصير مال تجارة، لأن المال الذي لا يكون للزكاة من أصله لم يصر للزكاة بمجرد نية مالكه، كالحيوانات المعلوفة معلوم أنها لا تزكى، لأن الشرط في الحيوانات التي تزكى أن تكون سائمة أي ترعى في كلا مباح فإذا نوى صاحب الحيوانات المعلوفة اسامتها لم يصر للزكاة. ويوجد فارق بين ما إذا ملك الشخص عرضا ثم نوى للتجارة، وبين ما إذا كان عنده متاع للتجارة ثم نوى القنية بمال التجارة، لأن القنية هي الإمساك بنية القنية، وقد وجد الاثنان: الإمساك والنية، وأما التجارة فهي التصرف بنية التجارة، وقد وجدت النية فقط ولم يوجد التصرف، فلم يصر هذا المال للتجارة (27) (المهذب للشيرازي مطبوع مع المجموع للنووي شرح المهذب جـ6 ص48). وبين الشافعية أن من المعارضة العروض التي أخذت بدل قرض، وكذا كل عرض أخذ بدل دين، أو عرض أخذ بدل أجرة في إجارة ولو كانت الإجارة لنفسه (28) (حاشية قليوبي على شرح المحلي علي المنهاج للنووي جـ2 ص28، 29). وهناك رواية عن أحمد بن حنبل أنه لا يشترط أن يكون ملكه بفعله، بل يصير للتجارة بمجرد النية. ثالثا: مضى عام على تملكه، وهو ما يعبر عنه بحولان أي مرور اثنى عشر شهرا قمريا على كل ما تجب الزكاة فيه، وهو ما عدا الزروع والثمار، من النقود وهو الذهب والفضة، والأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، وعروض التجارة أي السلع التي يتاجر بها الناس. والحكمة في اشتراط مرور سنة على تملك مالك النقود والأنعام وعروض التجارة حتى تجب الزكاة في ماله أن النقود وعروض التجارة مرصد للربح، والأنعام مرصدة للنسل والدر فاشترط مرور عام حتى تجب الزكاة لأن مرور العام مظنة حدوث النماء في هذه الأنواع المشترط فيها مرور الحول، فإذا وجبت الزكاة صادفت نموا في المال فيؤدي المالك زكاة المال من الربح فيكون ذلك أيسر وأسهل في الالتزام بهذه الفريضة وأما الزروع والثمار فهي نامية في نفسها نموا كاملا عند وجوب الزكاة فيها. رابعا: أن يبلغ نصاب الذهب أو الفضة، أي الحد الأدنى الذي تجب فيه زكاة الذهب أو الفضة(29) (المهذب للشيرازي، مطبوع مع المجموع للنووي شرح المهذب جـ6 ص48، وفتح القدير للكمال بن الهمام جـ2 ص218، والمغني لابن قدامة جـ3 ص59، وحاشية ابن عابدين جـ2 ص13، 14، وشرح المحلي على المنهاج للنووي جـ2 ص28، 29، والشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي عليه جـ1 ص472). كما سنبين بالتفصيل فيما سيأتي: ومقدار الزكاة الواجبة في عروض التجارة هو ربع العشر (5،2 ?) اعتبارا بالنقد الذي قومت به (30) (حاشية البرماوي على شرح الغاية لابن قاسم الغزي ص127). نصاب الذهب والفضـة: كان الناس يتعاملون من قديم بالدينار المصنوع من الذهب، والدرهم المصنوع من الفضة، وكان الدينار يزن مثقالا، ولهذا يطلق أحدهما على الآخر، فالدينار مثقال، والمثقال دينار، فهما لفظان مترادفان، وقد ورد في الأحاديث النبوية على حد سواء(31) (ووردا كذلك على حد سواء في كتب الفقه الإسلامي، قال السرخسي في المبسوط: وإن كان له عشرة مثقايل ذهب ومائة درهم ضم أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب عندنا وقال في موضع آخر: روي عن أبي حنيفة أنه إذا كان للرجل مائة وخمسة وتسعون درهما، ودينار يساوي خمسة دراهم أنه تجب الزكاة، وذلك بأن يقوم الذهب بالفضة ، المبسوط جـ2 ص192، 193). روى ابن حزم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس في أقل من عشرين مثقالا من الذهب ولا في أقل من مائتي درهم صدقة(32) (المحلي، لابن حزم، جـ6 ص69 دار التراث). وروى أبو داود (33) (نيل الأوطار، للشوكاني جـ4 ص199). عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليهما الحول ففيهما خمسة دراهم، وليس عليك شيء يعني في الذهب حتى يكون لك عشرون دينارا، فإذا كانت لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار. ثم تغيرت الحال، وأصبحنا الآن في العصر الذي نعيش فيه لا نتعامل بعملة ذهبية، ولا نتعامل كذلك بعملة فضية غالبا، أو بعبارة أخرى لا نتعامل بالدينار وبالدرهم المصنوعين من الذهب والفضة وإن كنا نتعامل في بعض البلاد بدينار أو بدرهم لكنهما ليسا بالدينار والدرهم اللذين كان يتعامل بهما قديما، وغالب التعامل يجري الآن بنقود ورقية، أو من معادن مصنوعة من غير الذهب والفضة. والعلماء بينوا لنا نصاب الذهب والفضة- أي الحد الأدنى الذي تجب فيه الزكاة- بالدينار والدرهم، لأنهما كانا المتعامل بهما قبل الإسلام، وفي عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمر التعامل بهما بعد عصره، وثبت في أقواله الشريفة بيان نصاب الفضة، ورويت عنه صلى الله عليه وسلم بعض الأحاديث في نصاب الذهب، غير أن هذه الأحاديث المروية في نصاب الذهب قبلها فريق من العلماء، لأنه لا مطعن في أحد من رواتها عند هذا الفريق، ولم يقبلها فريق آخر لضعف هذه الأحاديث عندهم. قال النووي: ولم يأت في الصحيح بيان نصاب الذهب وقد جاءت فيه أحاديث بتحديد نصابه بعشرين مثقالا وهي ضعاف، ولكن أجمع من يعتد به في الإجماع على ذلك (34) (صحيح مسلم بشرح النووي جـ7 ص53 مطبعة حجازي بالقاهرة). وعلى هذا فالاستناد في تحديد نصاب الذهب إلى إجماع العلماء، هذا واتفق العلماء على أن نصاب الفضة مائتا درهم وزنا، والاعتبار بوزن أهل مكة، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الميزان ميزان أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة. واختلف العلماء في نصاب الذهب، فأكثر العلماء على أن الزكاة تجب فيه إذا بلغ بالوزن- عشرين مثقالا ، أي دينارا ، لأن المثقال هو الدينار كما بينا، ولا نظر إلى قيمتها، فالوزن هو المعتبر وهذا ما يراه مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد ابن حنبل، وغيرهم. ويرى جماعة من العلماء، منهم الحسن بن أبي الحسن البصري، وأكثر أصحاب داود بن علي الظاهري أنه لا تجب الزكاة على الذهب إلا إذا بلغ أربعين دينارا، وترى جماعة ثالثة أنه لا تجب في الذهب زكاة حتى يبلغ صرفه مائتي درهم أو قيمتها، سواء أكان وزن الذهب عشرين دينارا أم أقل أم أكثر. هذا فيما كان أقل من أربعين دينارا، فإذا بلغ الذهب أربعين دينارا، وترى جماعة ثالثة أنه لا تجب في الذهب زكاة حتى يبلغ صرفه مائتي درهم أو قيمتها، سواء أكان وزن الذهب عشرين دينارا أم أقل أم أكثر. هذا فيما كان أقل من أربعين دينارا، فإذا بلغ الذهب أربعين دينارا كان الاعتبار بها نفسها، لا بالدراهم لا صرفا ولا قيمة. وسبب اختلافهم في نصاب الذهب أنه لم يثبت عند بعض العلماء حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين ذلك، على العكس من الحال في الفضة، فقد ثبت في السنة بيان النصاب فيها، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليس فيما دون خمس أورق من الورق (35) (الورق بكسر الواو الفضة). صدقة (36) (صدقة المراد بها الزكاة هنا، والزكاة تسمى أيضا صدقة). والأوقية تساوي أربعين درهما، فقد أجمع العلماء على أن الأوقية الشرعية أربعون درهما. أما نصاب الذهب فقد رويت في أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعفها من لم يأخذ بها، ومنها ما رواه الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق عن عاصم ابن ضمرة، عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هاتوا زكاة الذهب من كل عشرين دينارا نصف دينار والحسن بن عمارة لا يقبل روايته قال ابن حزم في رده لهذا الحديث: وأما خبر الحسن بن عمارة فالحسن مطرح (37) (المحلي لابن حزم جـ6 ص71). ومن هذه الأحاديث ما رواه ابن أبي ليلى، عن عبد الكريم، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس في أقل من عشرين مثقالا من الذهب، ولا في أقل من مائتي درهم صدقة وقد ضعفه ابن حزم بأمرين: أحدهما: أن هذا الحديث صحيفة مرسلة، والحديث المرسل غير مقبول عند جمهور أهل الحديث (38) (الحديث المرسل هو ما سقط منه الصحابي، كما لو روي الحسن البصري وهو من التابعين أي الجيل الذي رأى جيل الصحابة ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة من غير أن يروي عن صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم). الثاني: أنه رواه ابن أبي ليلى، وابن أبي ليلى سيئ الحفظ. ومن هذه الأحاديث ما رواه عبدالله بن واقد، عن عبدالله بن عمر، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن في عشرين دينارا الزكاة وقد ضعفه ابن حزم أيضا بأن عبدالله بن واقد مجهول (39) (إذا كان في رواة الحديث راو مجهول فإن العلماء يضعفونه فيردونه، لأن من شروط الراوي أن يكون عدلا وضابطا، والراوي المجهول لا نعرف إن كان عدلا ضابطا أم لا. وغير هذا من أحاديث رويت في هذا الباب، وهي ضعيفة في رأي فريق من العلماء كما بينا، ولم يثبت عند هذا الفريق من العلماء أي حديث يبين نصاب الذهب (40) (بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد (الحقيد) جـ1 ص300، 301). لكن الفريق الآخر من العلماء يرون أن بعض الأحاديث ثبتت في بيان نصاب الذهب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها ما رواه أبو داود وغيره، عن عاصم ابن حمرة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس في أقل من عشرين دينارا شيء وفي عشرين نصف دينار. قال النووي في هذا الحديث: رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن أو صحيح (41) (المجموع للنووي شرح المهذب للشيرازي جـ5 ص463). الرأي المختار في نصاب الذهب: سنختار ما عليه أكثر العلماء، وهو أن نصاب الذهب عشرون مثقالا (دينارا) ونرى أن مما يرجح هذا الرأي أمران: الأول: أن هذا كان عليه عمل أهل المدينة، ففي الموطأ: قال مالك: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا أن الزكاة تجب في عشرين دينارا عينا، كما تجب في مائتي درهم (42) (الموطأ جـ1 ص246). ولما كان هو عمل أهل المدينة، فإنه يعطي قوة للرأي القائل به، لأن عمل أهل المدينة كالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثاني: مما يرجع هذا الرأي أيضا كتاب مشتهر، اعتمده العلماء في بيان مقادير الديات والزكاة، وغيرها، وهو كتاب عمرو بن حزم، الذي رواه النسائي في الديات، عن سليمان بن أرقم عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم، عن أبيه عن جده، وفي هذا الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل ابن عبد كلال، وفيه: وفي كل خمس أواق من الورق (الفضة) خمسة دراهم، وما زاد ففي كل أربعين درهما، وليس فيما دون خمسة أواق شيء، وفي كل أربعين دينارا دينار رواه عبد الرازق في مصنفه، قال: أخبرنا معمر عن عبدالله بن أبي بكر به، ورواه الدارقطني عن إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر به، ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك، كلاهما عن سليمان بن داود قال: حدثني الزهري به قال الحاكم: إسناده صحيح، وهو من قواعد الإسلام، وقال أحمد بن حنبل في كتاب عمرو ابن حزم: صحيح، قال ابن الجوزي: يشير بالصحة إلى هذه الرواية لا إلى غيرها. ومع أن بعض علماء الحديث ضعف هذا الحديث، كالنسائي فقد قال فيه: وسليمان بن أرقم متروك إلا أن الأمة تلفته بالقبول، وهي متوارثة كنسخة عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، وهي دائرة على سليمان بن أرقم، وسليمان بن داود، وكلاهما ضعيف، لكن قال الشافعي في الرسالة: لم يقبلوه حتى ثبت عندهم أنه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال يعقوب بن سفيان القسوي: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة أصح منه، فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه ويدعون آراءهم (43) (فتح القدير للكمال بن الهمام جـ2 ص175). الاعتبـار في الذهب والفضـة بالوزن: بين النووي أحد كبار فقهاء الشافعية المشتهرين أن مذهب العلماء كافة، ومنهم الشافعية أن الاعتبار في نصاب الذهب والفضة بالوزن لا بالعدد، أي ليس بعدد الدينارات في الذهب، ولا بعدد الدراهم في الفضة، بل الاعتبار بأوزانها، وبين النووي أن الماوروي وغيره من فقهاء الشافعية حكوا عن المنقري، وبشر المريسي المعتزلي أن الاعتبار بمائتي درهم عددا لا وزنا، وعلى لو كان شخص يمتلك مائة درهم عددا وزنها مائتان فلا تجب عليه زكاة فيها، وإن كان يمتلك مائتين عددا وزنها مائة وجبت الزكاة فيها قال النووي بعد أن بين هذا: قال أصحابنا: وهذا غلط منهما لمخالفته النصوص والإجماع فهو مردود (44) ( المجموع للنووي جـ5 ص478). مقدار الدينـار والدرهـم: ذكر بعض العلماء كالغزالي وغيره أن المثقال أي الدينار- لم يختلف في جاهلية ولا إسلام وأما الدراهم فكانت مختلفة الأوزان، والذي استقر عليه الأمر في الإسلام أن وزن الدرهم الواحد ستة دوانيق، وكل عشرة من الدراهم تساوي سبعة مثاقيل من ذهب (45) (فتح العزيز للرافعي، شرح الوجيز للغزالي ، مطبوع من المجموع للنووي جـ6ص5). وحكى المسعودي أن السبب في أنهم جعلوا كل عشرة دراهم من الفضة تساوي وزن سبعة مثاقيل من الذهب أن الذهب أثقل في الوزن من الفضة، وكأنهم جربوا قدرا من الفضة ومثله من الذهب فوزنوهما فكان وزن الذهب زائدا على وزن الفضة بمثل ثلاثة أسباعها (46) (المصدر السابق جـ6 ص5، والمجموع للنووي جـ6 ص14). وذكر العلماء أن وزن الدانق حبتان من الخرنوب وثلثا حبة خرنوب، فالدرهم الذي كانوا يتعاملون به يساوي ست عشرة حبة خرنوب. وكانت أوزان الدراهم مختلفة في البلدان، فكان يوجد منها البغلي وكان يزن ثمانية دوانيق ومنها الطبري ويزن أربعة دوانيق، ومنها المغربي ويزن ثلاثة دوانيق وإلى منى ويزن دانقا واحدا (47) (المجموع جـ6 ص15). ومنها الخوارزمي، وهكذا كانت الدراهم التي يتعاملون بها متعددة مختلفة الأوزان. ووردت روايات مختلفة في سبب استقرار الدراهم على وزن ستة دوانيق، فبعضها يبين أن الدراهم كانت في الفرس مضروبة على ثلاثة أوزان، منها درهم على وزن المثقال عشرون قيراطا، ودرهم وزنه أثنا عشر قيراطا، فلما احتيج في الإسلام إلى تقديره أخذ الوسط من جميع الأوزان وهو اثنان وأربعون قيراطا، فكان أربعة عشر قيراطا من قراريط المثقال، فلما ضربت الدراهم الإسلامية على الوسط من هذه الأوزان الثلاثة قيل في العشرة منها وزن سبعة مثاقيل، لأنها في الواقع كذلك (48) (الأحكام السلطانية، ص174، 175 دار التوفيقية بمصر). وبعض الروايات تقول إن عمر بن الخطاب رأى أن الدراهم اختلفت أوزانها، ما بين بغلي يزن ثمانية دوانيق، وطبرى يزن أربعة، ومغربي يزن ثلاثة، ويمنى يزن دانقا واحدا، فقال: أنظروا أغلب ما يتعامل الناس به من أعلاها وأدناها، فكان البغلي والطبري، فجمعهما فكانا اثنى عشر دانقا، فأخذ نصفها فكان ستة دوانيق، فجعل عمر ذلك وزن درهم الإسلام (49) (المصدر السابق ص175). وإحدى الروايات تقول: لما كان زمن دولة بني أمية، وأرادوا ضرب الدراهم في الإسلام في عصر عبد الملك بن مروان، وكانت الدراهم من أيام الجاهلية ضربيين: البلغية السوداء، وكانت تزن ثمانية دوانيق والطبرية وتزن أربعة، وكانوا يستعملونها مناصفة مائة بغلية ومائة طبرية، فكان في المائتين منها خمسة دراهم زكاة، فقالوا إن ضربنا البغلية ظن الناس أنها تعتبر فيها، فيؤدي ذلك إلى الإضرار بالفقراء، وإن ضربنا الطبرية أدى ذلك إلى الإضرار بأصحاب الأموال، فجمعوا الدرهم البغلي والطبري وجعلوهما درهمين كل درهم ستة دوانيق. وأما الدينار فكان يحمل إليهم من بلاد الروم، فلما أراد عبد الملك بن مروان ضرب الدنانير والدراهم سأل عن أوزان الجاهلية، فأجمع العلماء على وزن معين للدينار، وأن وزن كل عشر من الدراهم تساوي وزن سبعة دنانير، فضربها على هذا الوزن الذي أجمعوا عليه (50) (المجموع جـ6 ص14). ومن أن بعض الروايات تقول أول من ضرب الدراهم في الإسلام هو عبد الملك ابن مروان، فهناك رواية تقول أول ما ضربت في زمان عمر بن الخطاب (51) (مغني المحتاج: لمحمد الشربيني الخطيب، شرح المنهاج للنووي جـ1 ص389، وشرح الزرقاني على مختصر خليل جـ2 ص139). والرواية التي تقول بأن أول من ضرب الدراهم في الإسلام عبد الملك بن مروان تقول كانت الدنانير رومية، والدراهم ترد كسروية وحميرية، قال أبو الزناد: فأمر عبد الملك بن مروان الحجاج أن يضرب الدراهم بالعراق، فضربها سنة أربع وسبعين، وقال المدائني بل ضربها في آخر سنة خمس وسبعين ثم أمر بضربها في النواحي سنة ست وسبعين. كما توجد رواية تقول أول من ضربها مصعب بن الزبير بأمر أخيه عبدالله ابن الزبير سنة سبعين على ضرب الأكاسرة، وعليها بركة في جانب والله في الجانب الآخر، ثم غيرها الحجاج بعد سنة وكتب عليها بسم الله في جانب، والحجاج في جانب (51) (الأحكام السلطانية ، للماوردي ص176). وزن الدرهم والدينار بالحبوب عند الأئمة الأربعة: يزن الدرهم عند أبي حنيفة (70) سبعين من متوسط القمح أو الشعير، وأما الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد فهو على الصحيح عندهم (5502) خمسون حبة وخمسا حبة. وأما الدينار الذي أخذ به أبو حنيفة فهو مائة حبة (100) لأنه درهم وثلاثة أسباع درهم بالدرهم الذي أخذ به. وأما الأئمة الثلاثة فحددوا وزن الدينار باثنين وسبعين حبة (72) فهو ينقص عن دينار أبي حنيفة بثمان وعشرين حبة (28) (52) (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير جـ1 ص455، ومغني المحتاج، لمحمد الشربيني الخطيب جـ1 ص389، ورسالة في تحرير المقادير الشرعية على مذهب الأئمة الأربعة، لعبد القادر بن أحمد الخطيب الطرابلسي). مقدار الدينار والدرهم بالأوزان الحديثـة: في البداية نحب أن نبين أننا سنعتمد الرواية التي تقول إن أول من ضرب الدنانير في الإسلام هو عبد الملك بن مروان (53) (خامس الخلفاء الأمويين، حارب جيشه عبدالله بن الزبير، وكان قائد الجيش الذي أرسله عبد الملك إلى الحجاز ليحارب عبدالله بن الزبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد انهارت مقاومة أتباع عبدالله ابن الزبير وقتل زعيمهم عبدالله، وبهذا انتهت خلافة عبدالله بن الزبير في مكة، وتوطدت صلة الأمويين بالحجاز بعد أن مكث عشر سنوات تقريبا مستقلا عنهم). وأنه سأل عن أوزان الجاهلية فأجمع العلماء على وزن معين للدينار، وإن كل عشرة من الدراهم تساوي وزن سبعة دنانير، فضربها على هذا الوزن الذي أجمعوا عليه (54) (المجموع جـ6 ص14). وعلى هذا يكون المرجع التاريخي لمقدار الدينار الشرعي والدرهم الشرعي هو دينار ودرهم عبد الملك بن مروان، ومن حسن الحظ يوجد بعض الدنانير التي ضربت في عهد عبد الملك في المتحف الفني الإسلامي بالقاهرة، ويوجد به تسعة عشر دينارا، ويوجد سبعة منها في متحف لندن، وأربعة في المتحف العراقي، وأثبت بعض الباحثين من الأوروبيين بعد استقرائهم للنقول الإسلامية الموجودة في دور الآثار بلندن، وباريس، ومدريد، وبرلين، أن وزن دينار عبد الملك 4? 25 جرامات، وتبعهم الباحث المصري علي باشا مبارك الذي خصص الجزء المتمم للعشرين من كتابة الخطط التوفيقية على هذا الرأى، كما حددته بذلك أيضا دائرة المعارف الإسلامية، وذكرت دائرة المعارف أن هذا بالضبط هو وزن الدينار البيزنطي الذي كان مستعملا في تلك العصور (55) (الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية، للدكتور محمد ضياء الدين الريس ص252، وفقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي جـ1 ص261، والموازين والمكاييل والمقاييس والأحكام المتعلقة بها، رسالة ماجستير لمحمد نجم الدين محمد أمين مكتوبة بالآلة الكاتبة ص90 وما بعدها مقدمة إلى كلية الشريعة والقانون بالقاهرة وكان المؤلف أحد أعضاء اللجنة التي ناقشتها. وإذا علمنا أن وزن سبعة دنانير تساوي وزن عشرة دراهم فإن وزن الدرهم بالجرام يكون بضرب 4? 25 جرامات في سبعة، مقسومة على عشرة، فيكون الناتج هو وزن الدرهم، وهو 2? 975 جرامان وتسعمائة وخمسة وسبعون من الألف، ولما كان نصاب زكاة الذهب بالجرامات 4? 25 مضروبة في 20 فيكون الحاصل 85 خمسة وثمانين جراما من الذهب، ويكون نصاب الفضة بالجرامات 2? 975 مضروبة في 200 فيكون الحاصل 595 جراما من الفضة. ولا توجد مشكلة عند من يملك هذا المقدار من الذهب أو هذا المقدار من الفضة، فالذي عنده هذا المقدار من الذهب يجب عليه أن يخرج زكاته، والذي عنده هذا المقدار من الفضة يجب عليه كذلك أن يخرج زكاته، لكن المشكلة هي عند حساب الزكاة في النقود التي نتعامل بها الآن، هل يحسب النصاب من هذه النقود على أساس نصاب الذهب، فيكون الذي عنده نقود تساوي ثمن 85 جراما من الذهب بسعر الوقت الذي يجب إخراج الزكاة فيه يكون قد تحقق عنده نصاب الزكاة، أو يحسب النصاب من النقود على أساس نصاب الفضة، فيكون الذي عنده نقود تساوي ثمن 595 جراما من الفضة بسعر الوقت الذي يجب إخراج الزكاة فيه قد ملك نصاب الزكاة؟ هناك اتجاهان في هذه المسألة: أحدهما يرى أن النصاب يحدد بسعر الفضة، لأن نصابها مجمع عليه بخلاف نصاب الذهب ففيه خلاف، ولأن التقدير بنصاب الفضة أنفع للفقراء. والاتجاه الثاني يرى أن النصاب يحدد بسعر الذهب، لأن الفضة تغيرت قيمتها بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده، وأما الذهب فاستمرت قيمته ثابتة إلى حد بعيد، وهو وحدة التقدير في كل العصور. ذكر هذين الرأيين الدكتور يوسف القرضاوي ثم بين أن الرأي القائل بأن تقدير النصاب يجب أن يكون بالذهب يبدو سليم الوجهة، قوي الحجة، وقال (56) فقد الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي جـ1 ص263، 264). : فبالمقارنة بين الأنصبة المذكورة في أموال الزكاة لخمس من الإبل، أو أربعين من الغنم، أو خمسة أوسق من الزبيب أو التمر، نجد أن الذي يقاربها في عصرنا هو نصاب الذهب لا نصاب الفضة. إن خمس إبل أو أربعين شاة تساوي قيمتها نحو أربعمائة دينار أو جنيه أو أكثر (57) (فقد زادت الأسعار كثيرا جدا عن هذا السعر الذي كان موجودا عند كتابة الدكتور يوسف بحثه). فكيف يعد الشارع من يملك أربعة من الإبل أو تسعا وثلاثين من الغنم فقيرا، ثم يوجب الزكاة على من يملك نقدا لا يشتري به شاة واحدة وكيف يعتبر من يملك هذا القدر الضئيل من المال غنيا ؟ قال: لهذا كان الأولى أن تقتصر على تقدير النصاب في عصرنا بالذهب، وإذا كان التقدير بالفضة أنفع للفقراء والمستحقين فهو إجحاف بأرباب الأموال، وأرباب الأموال في الزكاة ليسوا هم الرأسماليين وكبار الموسرين، بل هم جمهور الأمة. هذا ولا أحب أن أترك هذه المسألة قبل أن أبين أن أحد كبار الفقهاء وهو ابن تيمية يرى أن الدرهم هو ما سماه الناس درهما وتعاملوا به، فتكون أحكامه أحكام الدرهم، من وجوب الزكاة فيما يبلغ مائتين منه، وغير ذلك من أحكام سواء قل ما فيه من الفضة أو كثر، وكذلك الحكم فيما سمى دينارا (58) (الفتاوي الكبرى، لابن تيمية، المجلد الرابع ص455). وهذا الرأي لا يسهل قبوله: إذ إن الزكاة إنما وجبت في مالك الغني شكرا لله على نعمة الغنى وسدا لحاجة الفقير والمحتاج والنصاب أي الحد الأدنى للمال الذي تجب فيه الزكاة جعل علامة على أن صاحب المال يعد غنيا فوجبت في ماله الزكاة، وكيف يكون من المقبول أن يعد غنيا من يملك مائتي درهم فقط من الدراهم التي يتعامل بها الآن في بعض الدول العربية. 1_تقويم عروض التجارة هل هو بالقيمة السوقية أم الدفترية: هل تقوم عروض التجارة بالقيمة السوقية أم بالقيمة الدفترية؟ والقيمة الدفترية يعبر عنها إصلاحا بالتكلفة التاريخية، ومعنى القيمة السوقية القيمة المنسوبة إلى السوق، أي القيمة الواقعية التي تكون صورة مطابقة للأسعار العادية في سوق السلعة موضوع التجارة، في ظل الظروف العادية التي ليس فيها احتكار أو غش. والتقويم العادل الذي يجب أن تحسب على أساسه زكاة عروض التجارة هو التقويم بالقيمة السوقية، لأنه المطابق للواقع، وأما القيمة الدفترية ففي كثير من الأحيان لا تكون معبرة عن السعر الحقيقي الحالي للسلع موضوع عروض التجارة، فقد تنخفض أسعار بيع الأشياء المخزونة عند التاجر، أو يتلف منها الشيء الكثير، أو تصبح كلها أو جزء كبير منها متقادما يؤثر على مستوى أسعار المخزون كله، فيؤدي ذلك إلى عدم تحقيق التكلفة التاريخية للمخزون. 2_ حكـم البضائع الكاسـدة: لم أجد عند غير المالكية كما لم يجد غيري ممن اطلعت على كتابتهم في هذا الموضوع فارقا في التقويم بين البضائع الرائجة أو البضائع الكاسدة، وأما المالكية فلكي نعرف ما يرونه في هذا يحسن أن نبين أن التاجر عندهم إما أن يكون محتكرا أو مديرا، ويعنون بالمحتكر من يرصد بسلعته الأسواق، وينتظر ارتفاع الأسعار حتى يبيع بالسعر المرتفع، كتجار العقارات، وأراضي البناء ونحو ذلك. ويعنون بالمدير من لا ينضبط له وقت ما يبيعه ولا ما يشتريه (59) أو بعبارة أخرى من يبيع بضاعته بالسعر الحاضر كيف كان ولو كان فيه خسر، ويخلفه بغيره، وهكذا، لا ينضبط له وقت في البيع والشراء، كالبقال، وتاجر الخردوات والأقمشة، والأدوات الكتابية، ونحوهم. والمحتكر عند المالكية لا تتكرر الزكاة عليه بتكرر السنوات، بل إذا باع السلعة بما بلغ نصابا (أي الحد الأدنى الذي تجب فيه الزكاة) تجب الزكاة عليه لسنة واحدة، ولو بقيت عنده سنوات. وعلل المالكية ذلك بأن الزكاة متعلقة بالنماء أو بالعين (أي النقد: الذهب والفضة) لا بالعروض، فإذا أقامت أعواما ثم بيعت لم يحصل فيها النماء إلا مرة واحدة، فلا تجب الزكاة إلا مرة واحدة، بخلاف المدير فإنه يجب أن يزكي عروض تجارته في نهاية كل سنة إذا باع بشيء ولو كان قليلا (60) (الشرح الكبير، لأحمد الدردير، وحاشية الدسوقي عليه جـ1 ص473).. وأما الجمهور ومنهم أبو حنيفة، والشافعين وأحمد بن حنبل، والثوري، والأوزاعي فليس عندهم فارق بين المدير وغير المدير، فحكمهما واحد، وأن من اشترى عرضا للتجارة فحال عليه الحول قومه وزكاه (61) (بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، لابن رشد جـ1ص316). ولما كان التاجر عند المالكية إما أن يكون محتكرا أو مديرا كان من الطبيعي أن يثار سؤال عندهم، هو هل البضائع الكاسدة عند التاجر المدير تحوله إلى محتكر، فلا يجب عليه أن يؤدي الزكاة إلا إذا باع السلعة بما يبلغ نصابا، أو لا تحوله هذه البضائع الكاسدة إلى محتكر، بل يظل على صفته مديرا، فيجب عليه أن يقوم بضاعته كل سنة، ويخرج الزكاة عنها إذا استوفت الشروط اللازمة لذلك. هناك اتجاهان في الفقـه المالكي: أحدهما:ما يراه ابن القاسم، وهو المشهور عند المالكية، أن كساد البضائع لا ينقلها للاحتكار، ويظل التاجر مديرا، ويتفق هذا الرأي وما يراه جمهور العلماء في وجوب الزكاة إذا حال على البضاعة الحول، فتقوم، ثم يخرج عنها الزكاة. ثانيا:أن كساد البضائع ينقلها للاحتكار، وهذا ما يراه ابن نافع، وسحنون فلا يقوم ما بار من البضائع (62) (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير جـ1 ص474). بل يزكي ما باعه فعلا. ونرى ما يراه الجمهور، وقد رجحه أيضا الدكتور يوسف القرضاوي (63) (فقه الزكاة، للدكتور يوسف القرضاوي جـ1 ص335) .وبين أنه الأقوى دليلا، لأن الاعتبار الذي قام على أساسه إيجاب الزكاة في عروض التجارة أنها مال مرصد للنماء مثل النقود، سواء أنمت بالفعل أم لم تنم، بل سواء ربحت أم خسرت، والتاجر سواء أكان مديرا أم غير مدير قد ملك نصابا ناميا فوجب أن يزكيه. ثم بين الدكتور القرضاوي أنه مع هذا قد يكون لرأي سحنون مجال يؤخذ به فيه، وذلك في أحوال الكساد والبوار الذي يصيب بعض السلع في بعض السنين، حتى لتمر الأعوام ولا يباع منها إلا القليل، فمن التيسير والتخفيف على من هذه حالة ألا تؤخذ منه الزكاة إلا عما يبيعه فعلا، على أن يعفى عما مضى عليه من أعوام الكساد، وذلك لأن ما أصابه ليس باختياره، ولا من صنع يده. ونحب في نهاية الكلام عن هذه المسألة أن نبين أن هناك اتجاهين في الفقه المالكي في الكساد ما هو؟ أحدهما يرى أن الكساد يحصل بمضي عامين على السلعة ولم يشتريها أحد، والاتجاه الثاني يرى أن العرف هو الحكم في اعتبار السلعة كاسدة أم لا. 3_ زكاة الديون التجارية بجميع صورها: الحالة المؤجلة- المقسطة على أقساط سنوية، أو أقساط شهرية، أو دورية- سواء كانت هذه الديون للتاجر، أو عليه للآخرين: من المعلوم أن الزكاة تجب في الأموال الباطنة والأموال الظاهرة، أما الأموال الباطنة فهي الأثمان (الذهب والفضة) وعروض التجارة، وأما الأموال الظاهرة فهي الأنعام أي الإبل والبقر والغنم، والزروع والثمار، فما هو حكم الزكاة في من عليه دين وله أموال باطنة أو أموال ظاهرة؟ وما هو الحكم في من له دين على آخر هل يؤدي الدائن زكاة هذا الدين أم لا؟ الكلام هنا في موضوع الديون سيكون في مسألتين: المسألة الأولى: حكم زكاة الدين في مال المدين سواء أكان تاجرا أم غير تاجر. والمسألة الثانية: حكم زكاة الدين في مال الدائن سواء أكان تاجرا أم غير تاجر. المسألة الأولى: حكم زكاة الدين في مال المدين تكلم العلماء في هذه المسألة مفرقين في الكلام بين ما إذا كان للمدين أموال باطنة، وما إذا كان له أموال ظاهرة، والمراد بالأموال الظاهرة الأموال التي تظهر للناس فلا تخفى عليهم كالحيوانات التي تجب فيها الزكاة، وهي الإبل، والبقر، والغنم، والزروع كالقمح والشعير، والأرز، والثمار، كالتمر والعنب، والأموال الباطنة هي الأموال التي يستطيع مالكها في العادة أن يخفيها عن أعين الغير، وهي الذهب والفضة. وع العلماء القدامى منها عروض التجارة وإن كانت عروض التجارة في هذا العصر الذي نعيش فيه لا يقبل بسهولة أن نعدها من الأموال الباطنة لأن السلع التي يتاجر بها التجار وهي عروض التجارة تظهر في الغالب في محلات البيع وفي المخازن التي يطلع عليها العاملون لدى صاحب هذه المخازن، واستيراد البضائع من الخارج خاضع لنظام تطلع الدولة بمقتضاه على السلع المستوردة التي هي موضوع عروض التجارة، فهذه المسألة إذن- متفرعة إلى فرعين: الفرع الأول: من عليه دين وله أموال باطنة. الفرع الثاني: من عليه دين وله أموال ظاهرة. وسنبين ما يراه العلماء وما نختاره على هذا الترتيب: الفرع الأول : من عليه دين وله أموال باطنـة. اختلف العلماء في هذا على رأيين: الرأي الأول: أن الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة، وهذا ما يراه عطاء وسليمان بن يسار، وميمون بن مهران، والحسن البصري، وإبراهيم النخع