الدروس والعبر من غزوة أحد

ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم زاد المعاد بعضا من الدروس والحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد كما ذكر بعض الأحكام الفقهية المأخوذة منها ونحن نذكر ما قاله هنا لأهميته يقول رحمه الله: وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى أمهاتها وأصولها في سورة آل عمران حيث افتتح القصة بقوله وإذا غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال (سورة آل عمران 121) إلى تمام ستين آية. فمنها: تعريفهم سوء عاقبة المعصية والفشل، والتنازع وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك كما قال تعالى ولقد صدقكم الله وعدكم إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم (سورة آل عمران 152 ) فلما ذاقوا معصيتهم للرسول وتنازعهم وفشلهم كانوا بعد ذلك أشد حذرا ويقظة وتحرزا من أسباب الخذلان. ومنها: أن حكمة الله وسنته في رسله، جرت بأن يدالوا مرة، ويدال عليهم أخرى لكن تكون لهم العاقبة، فإنهم لو انتصروا دائما، دخل معهم المؤمنين وغيرهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انتصر عليهم دائما، لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة، فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق، وما جاؤوا به ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة. ومنها: أن هذا من إعلام الرسل كما قال هرقل لأبي سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال، يدال علينا مرة، وتدال عليه الأخرى، قال: كذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة. أخرجه البخاري. ومنها أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر، وطار لهم الصيت، دخل معهم في الإسلام ظاهرا من ليس معهم فيه باطنا فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة، وتكلموا بما كانوا يكتمونه وظهرت مختبآتهم، وعاد تلميحهم تصريحا قال الله تعالى: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ومنها استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء، وفيما يحبون وما يكرهون، وفي حال ظفر أعدائهم بهم، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون، فهم عبيده حقا، وليس كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية. ومنها: أنه سبحانه لو نصرهم دائما وأظفرهم بعدوهم في كل موطن وجعل لهم التمكين والقهر لأعدائهم أبدا، لطغت نفوسهم، وشمخت وارتفعت فلو بسط لهم النصر والظفر لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق، لا يصلح عباده إلا السراء والضراء والشدة والرخاء والقبض والبسط فهو المدبر لأمر عبادة بما يليق بحكمته، إنه بهم خبير بصير. ومنها أنه إذا امتحنهم بالغلبة، والكثرة والهزيمة، ذلوا وانكسروا وخضعوا فاستوجبوا منه العز والنصر، فإن خلعة النصر إنما تكون مع ولاية الذل والانكسار ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة (سورة آل عمران 123) وقال ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا (سورة التوبة 25 ) فهو سبحانه إذا أردا أن يعز عبده، ويجبر كسره يكون جبره له، ونصره على مقدار ذله وانكساره. ومنها: أنه سبحانه هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لم تبلغها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة، فقيض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه، كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هي من جملة أسباب وصولهم إليها. ومنها: أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغيانا وركونا إلى العاجلة، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته، قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه، ويقطع منه العروق المؤلمة لاستخراج الأدواء منها، ولو تركه، لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه. ومنها: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه والمقربون من عباده، وليس بعد درجة الصديقية إلا الشهادة، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء، تراق دماؤهم في محبته ومرضاته، ويؤثرون رضاه ومحابه على نفوسهم، ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو. ومنها: أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم الأسباب التي يتسوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم، وطغيانهم،ومبالغتهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم، والتسلط عليهم فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم، وقد ذكر سبحانه وتعالى في ذلك في قوله تعالى ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين (آل عمران 139) فقد ذكر الله جل وعلا في هذه الآية عددا من الحكم وهي أن يتميز المؤمنون من المنافقين فيعلموهم علم رؤية ومشاهدة وأن الله اتخذ منهم شهداء فإنه يحب الشهداء من عباده وأن ما أصابهم في ذلك اليوم هو تمحيص الذين آمنوا وتنقيتهم وتخليصهم من الذنوب، ومن آفات النفوس. وأيضا فإن في ذلك محقا للكافرين بطغيانهم وبغيهم وعدوانهم. ومن الفوائد أيضا: أن وقعة أحد كانت مقدمة بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم أن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قتل بل الواجب عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ويموتوا عليه. ولذا قال سبحانه وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (آل عمران 144) والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قتلوا. هذا وقد ذكر ابن القيم بعض الأحكام الفقهية المستنبطة من غزوة أحد نذكر منها: أن الجهاد يلزم بالشروع فيه، حتى إن من لبس لامته وشرع في أسبابه وتأهب للخروج، ليس له أن يرجع عن الخروج حتى يقاتل عدوه. ومنها: أنه لا يجب على المسلمين إذا طرقهم عدوهم في ديارهم الخروج إليه، بل يجوز لهم أن يلزموا ديارهم، ويقاتلوهم، فيها إذا كان ذلك أنصر لهم على عدوهم، كما أشار به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد. ومنها: جواز سلوك الإمام بالعسكر في بعض أملاك رعيته إذا صادف ذلك طريقه، وإن لم يرض المالك. ومنها: أنه لا يأذن لمن لا يطيق القتال من الصبيان غير البالغين، بل يردهم إذا خرجوا كما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمر ومن معه. ومنها: جواز الاستعانة في الغزو بالنساء، والاستعانة بهم في الجهاد. ومنها: أن الإمام إذا أصابته جراحة صلى بهم قاعدا وصلوا وراءه قعودا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة، واستمرت على ذلك سنته إلى حين وفاته. ومنها أن السنة في الشهيد أنه لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يكفن في غير ثيابه بل يدفن فيها بدمه وكلومه، إلا أن يسلبها فيكفن في غيرها. ومنها: أن السنة في الشهداء أن يدفنوا في مصارعهم، ولا ينقلوا إلى مكان آخر، فإن قوما من الصحابة نقلوا قتلاهم إلى المدينة، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر برد القتلى إلى مصارعهم. ومنها: جواز دفن الرجلين أو الثلاثة في القبر الواحد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر، ويقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن فإذا أشاروا إلى رجل، قدمه في اللحد. ومنها: أن من عذره الله في التخلف عن الجهاد لمرض أو عرج، يجوز له الخروج إليه، وإن لم يجب عليه، كما خرج عمرو بن الجموح،وهو أعرج. ومنها أن المسلمين إذا قتلوا واحدا منهم في الجهاد يظنونه كافرا، فعلى الإمام ديته من بيت المال، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يدي اليمان أبا حذيفة فامتنع حذيفة من أخذ الدية، وتصدق بها على المسلمين. انتهى من كتاب زاد المعاد لابن القيم بتصرف يسير.